أتخيل السوريين الآن وهم يستقبلون أول يوم في الهدنة بعد ما يزيد عن سنة وأكثر من عشرة آلاف قتيل إضافة إلى آلاف الجرحى والمعتقلين والمشردين. أتخيلهم الآن وهم يضمدون جراح البشر والأشجار والشرفات الحزينة ووجه السماء وقلب الماء ودراجات الأطفال ومقاعد المدارس.. منذ تحول الوطن بأكمله إلى ساحة حرب. أتخيلهم الآن.. وهم غير مصدقين أو واثقين من هدوء البنادق ومدافع الدبابات والرشاشات الثقيلة. رشقات رصاص متفرقة تتكرر بين الآونة والأخرى لتذكر الجميع بجاهزيتها القاسية واستعدادها المريب للعودة..
الآن، يتنفس المواطنون الصعداء، ويخلع الجنود أبواطهم العسكرية وينشرون ستراتهم على حبال غسيل مرتجلة.. فوق الآليات العسكرية نفسها، أو وراء متاريس رملية ضيقة. يتبادل الناس الأسئلة عن الحال والمآل وأخبار الربع والأصدقاء، بعد أن صارت القصص الفاجعة أخبارا يومية، لا تثير تعاطف الآخرين، بقدر ما تثير نقاشات محمومة حول مصداقية المعارضين، رغم ثبوت التهمة بالدليل القاطع على النظام الأمني العسكري الذي حكم السوريين طوال أربعة عقود بالحديد والنار، فيما لا يزال المعاندون يرفضون فكرة أن قتل عشرات الآلاف تثبت همجية النظام وشراسته المستكلبة ضد مواطنيه..
ماذا ستفعل الأمهات في هذه الهدنة أمام قبور أبنائهن التي ارتجلت على عجل، وماذا سيفعل الآباء أمام صور أولادهم التي خطفها رصاص غامض بنوايا واضحة وجلية، وماذا سيفعل الأخوة بذكرياتهم مع أخوتهم الراحلين. وليس الوقت مناسبا لتنظيف أي شيء، القلب من ألمه، والبيت من حطامه، والعيون من دموعها، والحناجر من غصتها. وليس الوقت مناسبا إلا لالتقاط الأنفاس.. قبل أن تعود الحرب مرة ثانية لتسحق الأجساد بالجملة، والأحلام بالجملة، والبيوت بالجملة، ما دام الرصاص يصوب رشاً متواصلا..
سترجع الحرب لأن الفتيل الصاعق مازال قائما وشاخصا، فالمبادرة التي يقدمها المبعوث الأممي كوفي أنان انطلقت أصلا، لكي تفشل. كل شيء يقول أنها ستعود أحمى وطيسا وأكثر قسوة، فما من صراع أقسى من صراع الأخوة. تكفي مشاهدة وقراءة وسائل الإعلام الرسمية وتلك التي تستضيف المعارضين لنعرف أنها ستعود.. بعد وقت قليل. كل شيء.. الكلمات.. اللهجة.. لمعان العيون.. التعبئة.. كل شيء يقول أنها ستعود.
ما من هدنة في التاريخ هدأت النفوس من شحنائها ونجحت في إزالة أسباب التوتر والخلاف والعداء بين المتخاصمين والمتعادين. الهدنة.. استراحة محارب، وأحيانا يريدها المنتصر مثلما يتمناها المهزوم.. لتكون فرصة لصيانة الأسلحة وإمداد الذخائر ووضع تكتيكات القتال. الهدنة.. حصان طراودة وكناية عن خديعة مستمرة يحتاجها الجميع ويتواطؤ لها الكل، ريثما تشتعل شرارة الحرب ثانية..
وفي الهدنة حسابات ربح وخسارة، فمن تراه قد انتصر في المعركة السورية اليوم: هل انتصر النظام أم انتصرت الثورة؟ وهل ستسحب فعلا قوات الجيش وآلياتهم من الجبهات المشتعلة تجر أذيال.. ماذا؟ لو كانوا أعداء.. لقلنا أذيال الهزيمة والعار والخيبة. ولو غزاة لقلنا إنهم انكسروا على أسوار مدننا وقرانا مثلما انكسر جميع الغزاة البرابرة والمتحضرين.
أذكر من التاريخ هذه الحقيقة.. لقد غزا المغول والتتار بغداد وأحرقوها وقوضوا الدولة العربية وقتها ولكن الحضارة العربية هزمت تلك الشعوب الغازية التي ذابت يوما بعد يوم مع العرب فتكلمت اللغة العربية ودانت بالدين الإسلامي، وكانت تلك الحقيقة من بلاغات “الحروب الحضارية”. انتصر المغول على العرب، ولكن الحضارة العربية انتصرت على البربرية المغولية..
لهذه الحادثة بلاغاتها المبينة، حين ترى أنصار النظام وهم “يسرقون” الألحان الموسيقية التي يرددها المعارضون، ويبدلون أغاني الثورة بأغاني الولاء..
في الهدنة المؤقتة، والتي سوف تُخرق عما قريب، وسوف يتم تبادل الاتهامات حول تلك الخروقات، تمهيدا لشن حرب ثانية أكثر ضراوة ووحشية.. في الهدنة يمكن القول بلا مواربة: إننا، نحن الذين قتلنا وذبحنا وقصفت بيوتنا وزج بنا في السجون وفي التهم، يمكن القول برأس عال مليء بالدماء: لقد انتصرنا!..
Leave a Reply