لم يتمكن “مشروع الربيع العربي” من إسقاط سوريا.. وبالتالي فشلت القوى العالمية التي تقف وراءه وتدعمه في تطبيق أجندتها فاقدة بذلك قدرتها على القيادة والتحكم بمصير المنطقة ورسم خرائطه “الجيوفتنسياسية” الجديدة، مما يشكل مناسبة تاريخية للقوى العربية الحية لتحقيق نهضة عربية حقيقية، بقيادة سوريا وبالتحالف مع القوى العالمية الصاعدة.
منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، في العقد الثاني من القرن الماضي، تتحكم القوى الاستعمارية التقليدية في العالم بمسار التطورات المفصلية في المنطقة العربية، من المحيط الى الخليج، واضعة القوى العربية الحقيقية (سوريا ومصر والعراق وثروات الخليج وشمال إفريقيا..) بموقع الدفاع الدائم وتقديم التنازلات، وتجرع الهزيمة تلو الأخرى. لكن مع الهزيمة النكراء لمشروع إسقاط النظام السوري، رغم ما جُند له من دول ووسائل، فقدت قوى الاستعمار والتحكم الزخم لتجد اليوم نفسها تستعد لمرحلة جديدة تحمل بامتياز عنوان “الحد من الخسائر”، والانتقال الى الدفاع في أهم منطقة استراتيجية في العالم.
طبعاً هي ليست المرة الأولى التي تمنى هذه القوى، التي تقودها الولايات المتحدة اليوم، بهزيمة في المنطقة العربية جراء فشل تطبيق أجندتها، ولكن هناك جملة من الأدلة التي تؤكد أن فشلها في إسقاط النظام السوري يعتبر هزيمة استراتيجية سيكون لها تبعات في غاية الخطورة على نفوذها، الذي كان لعقود طويلة لا يضاهى في المنطقة. فتمَسّك هذه القوى لأشهر طويلة بـ”الثورة السورية” الفاشلة وتوفير كافة الإمكانيات لها، وما تخلله ذلك من حرق أوراق تكتيكية واستراتيجية وكشف أدوار دول ووجوه مشبوهة واستهلاك مصداقية إعلامها (أحد أهم وسائل نفوذها) ومنظماتها الإنسانية والدولية، يؤكد أن بقاء النظام السوري، لم يكن خيارا مطروحا في دوائر القرار الغربية، وبالتالي يبشر صموده بمرحلة جديدة تقلب فيها موازين المنطقة وتجهض ما كان مطلوب تحقيقه عبر “الربيع العربي”.
فما يسمى بـ”الربيع العربي” كان من المفترض أن يكمل مهمة مجموعة من الحكام العرب الخانعين أدوها طوال عقود، بإخلاص قل نظيره، في استنزاف وتجفيف إمكانيات الشعوب العربية وقدرتها على صناعة مصيرها. وإذا كان هؤلاء الحكام-المرتزقة أدوا مهمتهم بالقمع والتجهيل وبث الفتن الطائفية والمذهبية والقبلية، وحتى الرياضية، ولعبوا على حبالها التي شدوا بها أسس حكمهم، فإن الربيع العربي جاء ليكمل المهمة، مستغلا نقمة الشعوب على حكامها، باسم الفوضى الخلاقة، التي منيت بهزيمة أولى في صيف ٢٠٠٦ في لبنان.
فهذه الفوضى التي أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، عادت لتطل برأسها مع إحراق محمد البوعزيزي لنفسه، وهو واحد من عشرات الملايين من العرب الذين تمكن حكامنا-المرتزقة من زرع اليأس فيهم وتمكينه منهم الى حد الانتحار. فلذلك ليس مفاجئا أو مستغربا أن يسير ملايين العرب قطعانا قطعانا في التظاهرات المليونية في مشهد انتحار جماعي، لم يكن من السهل في خضم الأحداث والضخ الإعلامي إدراك مدى خطورته: الشعب يريد إسقاط النظام فقط، وبعدها الله أعلم!.
فمع انتهاء مدة صلاحية الحكام-المرتزقة جاء “الربيع”، ليغرق العالم العربي بصراعات عبثية، مثل إخواني-سلفي وسني-شيعي، تحيّد القضية الفلسطينية وتحوّل الأقليات (الأكراد، المسيحيين، الأقباط، العلويين، النوبيين، الدروز، الامازيغ..) الى عنصر تفتيتي فتُجزىء المجزأ وتُفتت المفتت.. فتمسي إسرائيل، عمليا، مجرد جارة، وينشغل العرب عن قضيتهم الأساس، فلسطين، ويغرقون بالتفاصيل. والشيطان يسكن في التفاصيل.
وفي علم التاريخ ونهوض الأمم، لم تقم قائمة لأي شعب في العالم، قبل أن يحقق النصر على عدوه الخارجي، وذلك مهما “انتصرت” هذه الشعوب على نفسها، باسقاط حاكم هنا وذبح آخر هناك..
ولذلك جهد داعمو “الربيع”، على التأكيد على أن لا هوية سياسية للتحركات الشعبية ولا علاقة لفلسطين بها. رغم أن فلسطين هي البوابة الوحيدة لأي نهضة عربية.
ولكن مع النصر السوري، الذي خربط خريطة المنطقة “الجيوفتنسياسية”، التي كانت تنتظرها قوى التحكم والاستعمار وأحيى آمال القوى العالمية الصاعدة في قدرتها على المواجهة، يجدر التوقف عند مفصلين أتاحهما صمود نظام دمشق واندحار الربيع عند أسوار أقدم عاصمة في العالم.
المفصل الأول: صمود الخطاب العربي، والقضية الفلسطينية، وما يحمله ذلك من خيار واقعي يمكن أن يجمع العرب بمواجهة الخطابات التفتيتية القائمة على المذهبية والتعصب الديني والمستندة على نصوص أحدثها يعود الى مئة عام..
المفصل الثاني: منع الغرب من ابتلاع العالم العربي واستخدامه كأداة طيعة لتركيع القوى العالمية، مثل روسيا والصين والهند وإيران، وبالتالي سيتاح للعرب نسج تحالفات قوية خارج المنظومة الغربية، تقودها سوريا، توفر سبل النهوض الاقتصادي والعسكري..
وأمام هذا المشهد ستضطر قوى الاستعمار والتحكم الى تقديم التنازلات وسيتحول “الربيع العربي”، الى عبء عليها بوجود النموذج السوري، الذي سيجذب الشارع العربي بمواجهة نماذج الإخوان والسلفيين والملالي ومشايخ النفط. فصمود النظام السوري وقف حاجزا صلبا أمام استشراء الفوضى في البلاد العربية، وجعل من شبه المستحيل أن يعمم “الربيع العربي” في بلدان أخرى، ولا حتى في موريتانيا رغم المحاولات القطرية المستميتة.
ولكن المعضلة الكبرى التي تواجهها هذه القوى الاستعمارية، في حال عدم تمكن الفوضى من بلدان الربيع العربي، هي إدراكها لصعوبة استمرارية مشايخ النفط والغاز، في محيط سيتاح فيه للمواطن العادي انتخاب رئيس البلاد مما يضعها أمام خيارين، إما تعذية الفوضى في تونس ومصر وليبيا واليمن وطبعاً سوريا، وإما أن تدفع نحو الاصلاح وتغيير أنظمة الحكم أو تجميلها في منطقة الخليج، عبر البوابة البحرينية، وهذا ما قد يتسبب بصراعات داخلية في دول المنظومة الخليجية ستخلخل أمن النفط العالمي، وهذا ما لا يطيق الغرب تحمله، إلا مضطراً، مما سيجبره على المقايضة وفض يده عن مناطق أخرى.
ولكن قوى الاستعمار والتحكم طبعا هي، باعتقادنا، أذكى من أن تتبرع بفتح المجال للمواطن العربي في أن يقرر مصيره بنفسه، في ظل وجود طرح نهضوي حديث جامع بعيد عن طروحات التيارات الإسلامية التقسيمية، لذلك ليس أمامها الآن سوى تشويه ما أنتجه الربيع العربي ودعم الفكر الرجعي الديني والحفاظ قدر الإمكان على استقرار منطقة الخليج التي ورثتها الإمبراطورية الأميركية عن أمها الإمبراطورية البريطانية. وبهذا تنكفىء القوى الاستعمارية وتتحول الى الدفاع عن حصونها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة مفسحة المجال للقوى العربية الحية بالتحول الى الهجوم، في فرصة تاريخية نادرة، مستفيدة من دعم القوى الصاعدة في العالم التي بدورها لن تفوت فرصتها بكبح التمدد الغربي مستغلة الضعف الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا وصمود النظام السوري.
وهذا المشهد يتطلب من سوريا الجديدة، أن ترتب بيتها الداخلي وبسرعة، والاستعداد لقيادة نهضة عربية حقيقية، وهو شأن، على الرغم من تحدياته الصعبة والعميقة، ليس مستبعدا عن دمشق التي صنعت وقادت أول إمبراطورية عربية في التاريخ، ولا عن “المثقف العربي الحقيقي” الذي يبقى الرهان الأول والأخير عليه.
Leave a Reply