قراءة في أسباب تعثر المسيرة الاتحادية لمجلس التعاون
“التعاون”.. ولهم فيه مآرب أخرى؟
ما الذي يجري في منطقة الخليج؟ تحركات اجتماعات وايقاظ لمشاريع نائمة. هكذا عاشت المنطقة، في الاسبوع الماضي، على وقع اجتماع القمة لمجموعة الدول الست التي تمثل مجلس التعاون الخليجي والذي دعا اليه الملك السعودي وترأسه الاثنين الماضي، 14 أيار (مايو)، في قصر الدرعية في الرياض لبحث آليات تنفيذ مشروع تحويل منظومة مجلس التعاون الى “اتحاد” لم يتضح إطاره ولا آليات مراحل تنفيذه بعد، مما يدل على أن المشروع دفع به على عجل نتيجة الظروف الداخلية العصيبة التي تعيشها دول المنظومة اضافة الى تداعيات الواقع الاقليمي المتدهور.
ولكن هل لهذه المنظومة الخليجية التي برزت في الفترة الاخيرة كإحدى المنظمات العربية الأكثر فاعلية وتأثيراً في المنطقة، خاصة خلال “ثورات الربيع”، وقدمت نفسها كبديل للجامعة العربية، هل لها القدر الكافي من التجانس والقدرة لجعلها، فعلاً، رأس القاطرة العربية التي تقود مسيرة شعوب المنطقة نحو مستقبل افضل؟
بُعث مجلس التعاون الخليجي سنة ١٩٨١، ومن يومها لم يقدم شيئاً يذكر الى منطقة الخليج ولا الى بقية الشعوب العربية، ولم يكن إلاّ مؤسسة للتعاون على الاستئثار بأموال البترول وحرمان بقية فقراء وجوعى العرب منها. كانت أغلب اجتماعات هذا المجلس مجرد مناسبات للعائلات الحاكمة لأخذ الصور التذكارية وتبويس الشوارب ليس إلا، ولم يكن له دور يُذكر إلا خلال الحروب التي عرفتها المنطقة حيث استدعى واحتضن الاساطيل، قبل أن يبرز مؤخراً خلال “ثورات الربيع”، حيث وقف ضد ثورات تونس ومصر واليمن واحتضن دكتاتور تونس الهارب مع امواله المسروقة، وحصّن رئيس اليمن وسنوات حكمه الفاسدة، وتدخل في محاكمة مبارك وساوم عليها، ثم جيّش المنظمات الدولية ضد ليبيا التي خُرّبت ثم تُركت حطاماً لتلعق جراحها لوحدها، ثم أشعل هذا المجلس الفتنة في سوريا وصب الزيت على النار ليصدق فيه قول العلامة المؤرخ ابن خلدون “إذا عُرّبت خرّبت”.
كثر الحديث، مؤخراً، عن اجتماع القمة الخليجية الذي كان منتظراً أن يعلن ولادة الاتحاد الخليجي، لكن كانت المفاجأة أن اجتمع المجلس بحضور منقوص لرئيس الامارات خليفة بن زايد وسلطان عمان قابوس بن سعيد وكان منتظراً فشل الدعوة الى تحوّل مجلس التعاون الى اتحاد لعدة اسباب سنأتي على ذكرها عند تناولنا لمعوقات بناء الاتحاد. وفي نهاية الاجتماع الذي قيل انه قمة لانجاز الاتحاد تغيرت اللغة بعد معارضة البعض للمشروع، ليسمى لاحقاً “اجتماعاً تشاورياً” لتخفيف تبعات عدم الاجماع علىه. وقد خرج وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في نهايته ليقول أنه تم تأجيل إعلان الاتحاد الخليجي؛ لوضع دراسة ستكون شاملة ودقيقة له.
ومن خلال هذا التصريح نستشف أن مشروع الاتحاد أُجّل، وأن معنى “أنه ستوضع له دراسة دقيقة وشاملة” يؤشر الى أن المشروع سيعود مجددا لينام بين الرفوف الى أجل غير مسمى. وهناك مغزى هام لهذه الدعوة ومكانها حيث تم الاجتماع في قصر الدرعية وهو منطقة العاصمة القديمة التي كانت تنطلق منها الجيوش السعودية في عهد الملك عبد العزيز في حملات لضم كل الجزيرة تحت سلطانه. وهذه الخطوة تشكل اشارة واضحة الى استيقاظ الحلم السعودي القديم بتوحيد منطقة الجزيرة العربية بأكملها تحت راية آل سعود، لكن هذه المرة اختير أن يكون الأسلوب عبر المفاوضات لا تحت صهيل الخيل ورنين السيوف. إذا يمكن القول ان مجلس التعاون الخليجي لم يُنجز أصلاً من أجل توحيد العرب ولا حتى توحيد دول الخليج، بل كان لهم في إنجازه مآرب اخرى قد شهدناها عبر تاريخ المنظمة في ما عرفناه خلال حروب الخليج ثم خلال ثورات الربيع.
الإتحاد الخليجي مشروع واقعي أم حلم طوباوي؟
رغم ما تقدم من عدم فاعلية منظمة مجلس التعاون الخليجي، وعدم قدرتها على التطور لتتحول الى اتحاد فاعل اقليمياً ودولياً، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود مقومات حقيقية وموضوعية في واقع منطقة الخليج لتحقيق الاتحاد وجعله أمراً واقعاً، لا مجرد مشروعاً طوباوياً، ويمكن ذكر أهم هذه العوامل بما يلي:
– وحدة اللغة: يتكلم كل سكان المنطقة الخليجية نفس اللغة العربية التي تشكل وعاءً لوحدة الثقافة
– وحدة الأرض المشتركة: تمتد بلاد الخليج دون عوائق تذكر مما يسهل تنقل المواطنين وسرعة التفاعل بينهم.
– الإرث الحضاري: تجمع شعوب الخليج مقومات هامة مثل وحدة الدين والتقاليد والعوائد والثقافة.
أما العناصر غير المتحققة في الواقع والتي يمكن أن تساهم في تطوير المنطقة واستقرارها، لو وقع تحقيقها، فهي:
– السوق المشتركة: لسكان الخليج مصلحة مشتركة يمكن تحقيقها بأقل كلفة عبر التبادل التجاري في سوق واحد دونما مشقة المعاملات والتبادل مع اسواق بعيدة مما يخفف الكلفة في نقل البضائع ويطور حركة التجارة والنقل البينية.
– الأمن والسلم: وجود جيش موحد قادر على حماية المنطقة وتحقيق السلم بين شعوبها خاصة والمنطقة العربية عامة ويوفر أموالا طائلة كانت تصرف على استجلاب الأساطيل الأجنبية.
– منظومة تعليمية موحدة: مما يسهل توحيد مناهج التعليم والاستفادة من تنقل الكوادر بين دول المنطقة واندماجهم بسهولة في اية منطقة من مناطق الاتحاد، مما يوفر قاعدة واسعة للكفاءات والخبرات للتطوير في مختلف المجالات والقطاعات، اقتصادية كانت أم ثقافية.
كل هذه العوامل المذكورة قادرة على بناء نمو متوازن بين شعوب المنطقة وبين مختلف فئاتها وطبقاتها الاجتماعية، مما سيخلق مجتمعا متضامنا يضمن ديمومة السلم الأهلي، لكن كل ذلك مشروطاً، وحتماً، بتركيز سياسة مبنية على اطلاق الحريات السياسية وبناء منظومة دائمة لحقوق الانسان وتوزيع الثروات بين الشعوب وبناء تحالفات واقعية تراعي فيها مصلحة المنطقة العربية وشعوبها اولاً.
ورغم اننا قدمنا معطيات تدل بوضوح على قدرة المنطقة الخليجية على التوحد والتطور بطاقاتها وكفاءاتها الذاتية، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نشير الى أن كل ما تقدم ينطبق تماماً على كل المنطقة العربية وعلى كل شعوبها، وإنه من الأحرى التحرك لإنجازها عربياً، لا فقط خليجياً، وإن حصل وأُنجز الاتحاد الخليجي أولا فلا بد ان تكون المرحلة اللاحقة لهذا الاتحاد بالضرورة عربية شاملة، لانه لا يمكن للمنظومة الخليجية أن تحلق بجناح واحد.
مشروع الاتحاد والمعوقات الذاتية
لم تتحقق الوحدة الحقيقية او الاتحاد بين دول منظومة مجلس التعاون، والاسباب متعددة ابرزها:
– العامل العائلي والعشائري: هناك قصور في الإرادات داخل المنظومة نفسها تتجلى بغياب حماسة العائلات والعشائر الحاكمة في دول المنطقة لهذا المشروع، لأنه يعني ببساطة التشارك في الثروات، وهذا الموضوع خط احمر بالنسبة لعائلات عاشت لسنين عديدة تتصرف في خيرات منطقة الخليج وخاصة ثروات النفط والغاز، وكأنها مُلك خاص للعائلة تعطي منه حسب رغبتها وهواها للبطانة البيرقراطية الموجودة حول الحكام، وفتاته يلقى الى الشعوب كل حسب ولائه، كل حسب طاعته.
والسؤال الذي يفرض نفسه، إن كان الأمر كذلك فلماذا كل هذه الجعجعة حول موضوع “الاتحاد” مادام غير مرغوب به؟
والجواب: إن الاتحاد غير مرغوب به خليجياً لكنه مطلوب سعودياً، ولعدة أسباب، أبرزها رغبة قديمة دفينة لآل سعود في السيطرة على المنطقة كلها وهو مشروع لم يتحقق لغاية اليوم. لكن ذلك لم يمنع آل سعود من استغلال تحديات “ثورات الربيع” ليوقظوا المشروع ويحاولوا تحقيقه، هذه المرة، عبر التفاوض تحت شعار الخطر الشعبي الداهم على العروش أو الخطر الايراني والشيعي وغيرها من المسوغات. كذلك أصبحت الوحدة مطلباً لحكام البحرين للاحتماء بالشقيقة الكبرى التي ستساعد آل خليفة على الحفاظ على ميراث العائلة. ولكن ما عدا السعودية والبحرين تبدو فكرة الاتحاد الخليجي لبقية الاعضاء مُسقطة وغير واقعية، وقد عبر بقية الاعضاء عن عدم تحمسهم للمشروع بعدم حضور أعلى سلطة في الامارات (رئيس الدولة) وفي عمان (السلطان) الذي أوفد وزير خارجية سلطنة يوسف بن علوي، الذي قال مستبعدا امكانية قيام الاتحاد “فكرة الاتحاد غير مفهومة بالنسبة لنا.. هي فكرة نبيلة في مجملها، وربما تحدث في غير هذا الزمان.. ولكن هناك أشياء غير مفهومة من حيث التطبيق والآليات، ولا من حيث الحاجة أو الإيجابيات أو السلبيات. الاتحاد بكل مآله من تطلّعات، ليس في منطقتنا فقط بل في كل العالم العربي، لا يزال فكرة..”.
– اختلاف الانظمة واساليب الحكم: من العوائق الاخرى والتي تعرقل أي تحول من التعاون الى الاتحاد هو طبيعة بنية الحكم في دول الخليج. فبالرغم من أنها كلها انظمة مبنية على سلطة العائلة والعشيرة، إلا أنها تختلف من حيث اسلوب الحكم، وتتدرج من انظمة مطلقة كالسعودية، الى انظمة لها نوع من النظام البرلماني مثل الكويت التي يوضح رئيس برلمانها أحمد السعدون معوقات مشروع الاتحاد بقوله “لا يمكن أن يكون هناك اتحاداً بين دول طبيعة أنظمتها السياسية مختلفة.. ولا يمكن أن تتحد الكويت مثلا كدولة تتمتع بقدر من حرية التعبير والتمثيل الشعبي وقدر من حق الناس في إدارة شؤونهم، مع دول تعج سجونها بالآلاف من مواطنيها لأنهم عبروا عن آرائهم”.
واضاف: “إن علينا العمل على كل ما يحقق وصولنا إلى اتحاد بين دول مجلس التعاون، ولكننا نخادع أنفسنا إذا قلنا أننا سنصل إلى ذلك دون وجود قدر من التنازل من الأنظمة السياسية لشعوبها في المنطقة”.
– الاختلافات في نمط العيش والحياة: حيث تعرف بلداناً، خاصة الكويت والامارات وقطر، تفتحاً على العالم ومشاركة افضل للنساء في حين تعرف دول أخرى انغلاقاً وتزمتاً.
– صراع الزعامات بين شيوخ وحكام دول الخليج: هناك أمر بارز ومعروف في المنطقة الخليجية خصوصاً، والعربية عموماً، وهو صراع الزعامات، حيث مثلت هذه النعرة أحد المداخل التي ضرب بها الاستعمار المنطقة قديماً وحديثاً، وهو إحداث صراع بين الحكام لاستمرار الانقسام والتطاحن والفرقة بمبدأ فرق تسد، وهي سياسة قديمة-حديثة.
سابقاً، كان الجميع في منطقة الخليج ينقادون تحت امرة السعودية بحكم موقع بلاد الحجاز في قلوب العرب والمسلمين، وبحكم ثروة البترول وعمق الجغرافيا والديمغرافيا، لكن تغيرت المعطيات منذ سنوات بعد أن أطلت قطر برأسها بحكم ثروات الغاز الهائلة وسيطرتها على اهم قنوات الاعلام، فبنت تحالفات خارجية مهمة واحتضنت على أرضها اكبر القواعد العسكرية لتستعيض بها عن الاحتماء بباقي المنظومة الخليجية والعربية. كما أن حكام قطر لوحوا مرات عديدة بأنهم ليسوا أقل عروبة وشرفاً من غيرهم وبأن لهم حق الزعامة بوصفهم من قبيلة تميم الحجازية والممتدة قبائلها في أغلب الخليج وباقي المنطقة العربية، والانتساب الى تميم والحجاز هو مسوغ تشريفي وتاريخي.
كما أن سنوات الحكم التي قضتها أغلب الأسر الحاكمة بالخليج وحالة الرخاء والبذخ التي تعيشها تجعل من الصعب عليهم التخلي عن الزعامة أو الرئاسة لغيرهم مهما كانت الأسباب.
المعوقات الإقليمية والدولية
إضافة للمعوقات الداخلية التي حالت وتَحُول دون تحوّل مجلس التعاون الخليجي الى اتحاد حقيقي، عانت المنطقة من الدور السلبي للعوامل الاقليمية والدولية، فالصراعات التاريخية على الحدود مثل قضية الجزر المتنازع عليها بين الامارات وايران او المطالبة غير المعلنة من إيران بضم البحرين التي كانت جزءاً من دولة إيران والتي بدأت تطفو الى السطح بعد اعلان مشروع سعودي-بحريني للوحدة، رد عليه رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بالقول “البحرين ليست لقمة سائغة بإمكان السعودية إبتلاعها بسهولة”، مما حدا بالأمير نايف بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي، برفض ما سماه “احتلال إيران لجزيرة أبو موسى وبدورها في أحداث البحرين”، ومحذراً إياها بقوله: “إن أي أذى تتعرض له أي من دولنا هو أذى يمسنا جميعا”. ودعما للموقف السعودي قالت الامانة العامة لمجلس التعاون ان سياسة ايران بالمنطقة “عدائية وتكشف عن نوايا سيئة… تثير القلق والتوتر”.
إن هذه الصراعات والتجاذبات الاقليمية ليست دائماً ذات اسباب حقيقية بل كثيراً ما كانت مفتعلة من أطراف دولية ذات مصالح في المنطقة تسعى الى خلق الازمات لإشعال الحروب والصراعات الجانبية لتأمين ازدهار سوق السلاح، وليكون ذلك مبرراً لوجود القوى الأجنبية المتنفذة قريبا من منابع الغاز والنفط. ولا شك أن قيام مشروع اتحاد بين بلدان الخليج يعني تقوية المحور الخليجي ودفعه لاستغناء عن القوى الدولية التي ستخسر إن حدث ذلك مواقعاً هامة لها في أغنى مناطق العالم. لذلك، فإن استمرار تفتت المنطقة الخليجية يعني استمرار النفوذ الدولي بها مما يعني مزيداً من اهدار المال والثروات في صراعات خليجية-خليجية أو خليجية-عربية أو عربية-اسلامية مما يعني دائماً أن الخاسر الاكبر هو شعوب المنطقة.
وكما أسلفنا فإن الرغبة في قيام اتحاد خليجي في هذه الفترة بالذات ليس الا رغبة سعودية لضرب عصافير كثيرة بحجر واحد.
– أولاً، احياء مشروع الملك عبد العزيز آل سعود، والذي كان طموحه مملكة تمتد على كل الجزيرة العربية. هذا المشروع يبدأ الآن بضم البحرين، الراغبة في ذلك هربا من الاحتجاجات الشعبية التي تهز البلاد منذ اكثر من سنة.
– ثانياً، محاولة السعودية التسابق مع الوقت حتى لا تنتشر رياح “الربيع العربي” التي بدأت تهب على شرق المملكة وفي مناطق أخرى منها.
– ثالثاً، استعادة الدور الاقليمي والعربي للمملكة وافتكاك زمام المبادرة من إمارة قطر التي بدأت تعزز دورها كلاعب أساسي على مستوى المنطقة العربية بعد انشغال المملكة بصراعات البلاطات بين الامراء المتنازعين على العرش.
– رابعاً، توجيه اهتمام وانظار المتصارعين على العرش بمهمة توحيد الخليج تحت امرة آل سعود وما يعنيه ذلك من غنائم مغرية ستوحد أهدافهم وتلهيهم عن صراعاتهم الى حين.
– خامساً، محاولة حشد كل الخليج لمواجهة، حسب رأيهم، تنامي الدور الايراني في المنطقة خاصة بعد انسحابات الجيوش الاطلسية منها.
إذاً، يمكن القول أن مجلس التعاون لم يحقق اجماعاً حول انجاز مرحلة الاتحاد ولم يكن موحدا حول قضايا المنطقة، الا عندما أشعل الحروب ضد بعض الدول العربية، وما عدا ذلك فقد فشل المجلس في أن ينجز أي شيء لشعوبه، فأظهرت هذه المنظومة بذلك انها لا تملك من زمام أمرها وأمر قراراتها المصيرية شيئاً، وهي ليست في الحقيقة إلا مجرد منظمة للعلاقات العامة.
Leave a Reply