حل جيفري فيلتمان وجو ليبرمان مطلع الشهر الجاري “ضيفين” على لبنان الذي كان حتى الأمس القريب بمنأى، نسبياً، عن دوامة الاضطرابات التي تعم المنطقة.
كان الهدف من الزيارة واضحاً، والرسالة التي حملها عضوا الوفد الأميركي المحسوبان على التيار الصهيوني، في الادارة والكونغرس، ترجمت سريعاً على الأرض، من طرابلس وعكار شمالاً وصولاً الى بيروت: إما صفقة إقليمية مع واشنطن لضبط النزاع في الشرق الأوسط، وإما الفوضى عبر تفجير المنطقة التي تم تفخيخها مذهبياً منذ غزو العراق في العام ٢٠٠٣. فما الذي يحصل الآن؟ ولماذا هذا التوقيت في تسريع عملية تأجيج الفتنة والتلويح بإشعالها إنطلاقاً من لبنان؟
التهديد بتفجير لبنان أمنياً ومذهبياً رسالة أميركية “جادة” تكشف مأزق واشنطن من جهة وتحمل ضغطاً كبيراً على دمشق وطهران من جهة أخرى، وتسعى الى جرهما الى عقد صفقة مع الولايات المتحدة تقطع الطريق أمام الجموح الروسي والصيني في تقاسم النفوذ الدولي في المنطقة، وترسم قواعد الصراع وخطوطه الحمر في المرحلة المقبلة وتحفظ المصالح الاستراتيجية لواشنطن وتحمي أسس النفوذ الأميركي في المنطقة.
والنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط اليوم تحت وطأة نكسات متتالية، بدءا من تموز ٢٠٠٦ وصولا الى الانسحاب من العراق وتتويجا بصمود النظام السوري الذي أذهل واشنطن، رغم كل الاوراق التي حرقتها الادارة الأميركية في سبيل اسقاطه، ووضعها في موقع لا تحسد عليه يجبرها على حرق مزيد من الاوراق في محاولات متواصلة لجر خصومها الى صفقة، تمنع نهوض محور قوى الممانعة بالتحالف مع القوى العالمية الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين.
فبعد صمود نظام دمشق واستعصاء اسقاطه بكرة ثلج “الربيع العربي”، بدأت تظهر بوادر “محور شرقي” يمتد من حدود فلسطين المحتلة الى قلبي موسكو وبكين اللتين لا تبديان أي رغبة في تهدئة مخاوف واشنطن المتوجسة من انحسار نفوذها في أهم منطقة في العالم.
مبدئياً، كانت واشنطن تعول على نجاح “الربيع العربي” ووصول “الاخوان المسلمين” الى الحكم، عبر صناديق الاقترع، ضمن صفقة تضمن مصالح اميركا الاستراتيجية، وتولد صراعات مذهبية في المنطقة، أطرافها الاخوان-السلفيون- الشيعة، تعطيها هامشاً واسعاً في اللعب على التناقضات، مما سيتسبب بمزيد من تفتيت المنطقة وتبديد مقدراتها، الأمر الذي بدوره يحفظ التفوق الاستراتيجي الاسرائيلي ويتسبب بانحسار القضية الفلسطينية في أضيق هامش.
قدمت واشنطن القرابين للربيع العربي، من زين العابدين بن علي الى حسني مبارك وصولا الى معمر القذافي وعلي عبدالله صالح، وكانت الامور تسير على أحسن ما يرام (لولا فضيحة البحرين).. الى أن وصل “الربيع” الى دمشق فاصطدم بنظام متماسك وشعب واع، ليبدأ بعد ذلك انكشاف طبيعته في ظل فوحان رائحة الصفقة الاميركية-الاخوانية وسقوط فعالية الكثير من الادوار المشبوهة في المنطقة، وعلى رأسها الدورين التركي والقطري.
فمع صمود النظام السوري الى حين حلول موعد الانسحاب الاميركي من العراق، بالتوازي مع اثبات ايران قدرتها على التعايش مع العقوبات والحفاظ على نموها الاقتصادي والعسكري، وما سبق ذلك من إسقاط حكومة سعد الدين الحريري الموالي لواشنطن في لبنان، تهيأت المنطقة لتشكل “محور اقليمي” (إيران، العراق، سوريا، لبنان، المقاومة الفلسطينية) لا يحتاج الى أكثر من الاعلان عنه ليصبح أمرا واقعا.
وهذه التطورات على مستوى المنطقة ترافقت مع ازمات مالية عصفت بالغرب في ظل صعود قوى عالمية جديدة (على رأسها روسيا والصين والهند) راغبة في مواجهة هيمنة القطب الواحد على العالم، ما شكل بدوره خريطة طريق لنشوء “محور شرقي”، يمتد من بكين الى موسكو الى غزة. في وجه “المحور الغربي” الذي تقوده واشنطن، ما دفع الاخيرة الى ادراك حساسية المرحلة وضرورة العمل الجاد على تحويلها الى مجرد “جولة خاسرة” بدل أن تكون “ضربة قاصمة” لتفرّد نفوذها في الشرق الاوسط.
ومع إدراك صناع القرار في واشنطن لواقع أن “المحور الشرقي” الجديد أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، لم يعد بالإمكان سوى العمل على عقد صفقة تحد من خسائرها وتضبط ايقاع الصراع، في إطار يحمي الكيان الصهيوني وآبار النفط والغاز في شبه الجزيرة العربية. ورغم أن خصوم واشنطن الان يتمتعون بموقع استراتيجي متقدم، الا أن واشنطن لا تزال قادرة من خلال تفوقها التكتيكي، عبر حلفائها وادواتها، ان تجهض نهوض هذا “المحور الشرقي” عبر “إجبار” اطراف فاعلة فيه على عقد “صفقة” تمنحها القدرة على قلب الطاولة في المراحل اللاحقة.
دولياً، لا تبدي روسيا والصين أي رغبة، حالياً، في عقد اتفاق مع أميركا. وما غياب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن “قمة الثماني” في كامب ديفيد الاسبوع الماضي، إلا ليشكل مؤشراً واضحاً على رفض موسكو لتقديم تنازلات للمحور الغربي. فاقتصر التمثيل الروسي على رئيس الحكومة ديميتري ميدفيديف الذي حذر عشية القمة من أي تهور أو “حرب متسرعة” في رسالة للغرب بضرورة ضبط النفس أمام تدهور نفوذه في منطقة قلب العالم، الشرق الأوسط. أما الموقف الصيني، فلا يحتاج المراقب لكثير من التدقيق ليدرك أنه على يمين الموقف الروسي وأكثر تشددا منه، خاصة بعد موقعتي “الفيتو المزدوج” في مجلس الامن اللتين وأدتا امكانية السماح بعدوان غربي على سوريا واسقاطها بالقوة تمهيدا لخلق شرق أوسط جديد يدور في الفلك الأميركي، وحده، لا شريك له.
وأمام صلابة موقفي موسكو وبكين، ليس أمام واشنطن الا العمل على المستوى الاقليمي عبر جر إيران أو سوريا الى صفقة تخلخل تماسك المحور وتقطع الطريق أمام روسيا والصين. وهذا ما لم يتحقق مع ايران، حتى اليوم، رغم الضغط عليها عبر العقوبات وملفها النووي السلمي، ولا مع سوريا عبر الثورة المفترضة والضغط الإعلامي والدولي غير المسبوقين، ولا حتى مع على العراق الذي يعيش مرحلة الولادة الجديدة.
أما لبنان الذي نأى بنفسه عن تطورات المنطقة، ظل بعيداً نسبياً عن مسرح الاحداث، لغاية ادراك واشنطن لفشلها في جر أي من القوة الاقليمية والدولية المناوئة لهيمنتها الى طاولة الصفقة دون استخدام أوراقها وأدواتها فيه. فجاء قرار التلويح بتفجير الامن اللبناني بعنوان مذهبي، يهدد بتفجير المنطقة برمتها، وينذز طهران ودمشق بضرورة البحث عن مخرج سيقدمه الأميركيون عبر صفقة كاملة متكاملة يرجح أن يكون سخاء واشنطن طاغياً فيها وقد يصل الى حد إسقاط ملوك في الخليج كرمى عيون الرئيس السوري.
إن انفجار الوضع الأمني في الشمال اللبناني مؤخرا وخروج المسلحين وسقوط اقنعة ادوات واشنطن في لبنان (الحلفاء التقليديين للسعودية واسرائيل) خير دليل على ان الولايات المتحدة دخلت مرحلة حساسة تدفعها للتلويح بتفجير المنطقة مذهبيا في حال عدم الاتفاق على المرحلة المقبلة في صفقة تحافظ على التوازنات الحالية والتفوق الاسرائيلي وتمنع تشكل “محور شرقي” يهدد نظام القطب الواحد العالمي الذي تقوده هي.
يقول أحد السياسيين المخضرمين أن “الشرق الاوسط الجديد” ومشروع الهيمنة الغربية على البلاد العربية، تلقيا الهزيمة الاولى في لبنان في تموز (يوليو) ٢٠٠٦، وبسلاح روسي، وذلك “عندما أذل صاروخ “الكورنيت” الروسي الجيل الرابع من دبابات “الميركافا”، فخر آلة القتل الاسرائيلية”. اليوم وبعد ستة اعوام من بداية انتكاس الهيمنة الغربية، تحاول واشنطن ان تلتقط انفاسها عبر لبنان، فهل تنجح؟
وصلت الرسالة. فهل تكون كافية لإقناع سوريا، التي تحاول أن تخرج من الفوضى التي أُغرقت بها لمدى أكثر من عام، بضرورة عقد صفقة مع واشنطن؟ أم تستعد دمشق لمواجهة مفتوحة مع الأدوات الأميركية المتسلحة بالفتنة في المنطقة؟ أما إيران فلا يبدو أنها ذاهبة للرضوخ، خاصة بعد نتائج اجتماع بغداد الأخير ومواصلتها لسياسة المماطلة مع الغرب.
وبالعودة الى لبنان، يبدو أن “المحور الشرقي” مرتاح، أكثر من اللزوم، لوضعه الاستراتيجي. ففي حين كانت الاشتباكات والمظاهر المسلحة تجتاح أكثر من منطقة في بيروت والشمال، كان السفير الروسي يرقص رقصة “الكازاتشوك” التقليدية الروسية على التلفزيون ويغني مع دومينيك حوراني “واوا أح”، أما السفيرة الاميركية في عوكر تشير التقارير الى أنها بدأت تتعاطى الحلويات للهرب من الضغط النفسي والعمل المضني بسبب الوضع المتشنج في المنطقة والذي تمر معظم خيوطه في لبنان.
أمنياً، مر القطوع. المسلحون “الإسلاميون” خرجوا أقوى؟ طبعاً. الدولة والجيش انكسرت شوكتهم؟ نوعاً ما. هل هناك جولات قادمة؟ حتماً. فقرار تفجير لبنان لم يحن بعد. وبانتظار الرد السوري، لا شك أن بلد الأرز استعاد دوره الوظيفي الذي شغله في فترة الحرب الأهلية، وعاد صندوقا للبريد الدولي ومسرحا لتبادل الرسائل الناتجة عن تلاطم المحاور الدولية والاقليمية.
لبنان مرة جديدة قبلة أنظار العالم. لكن أيها العارفون والخابرون: “لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة”..فعندما دخل لبنان في حرب أهلية سابقة لم يخرج منها إلا بعد حسم الصراعات الدولية وانهيار الاتحاد السوفياتي.. ولم يخرج منها إلا وقد احترق الأخضر واليابس.
Leave a Reply