عن زيارة اليوم الواحد للقدس.. كيف حصلت، ولأية أسباب؟
يوم الثلاثاء في 15 أيار (مايو) الماضي كان الذكرى الرابعة والستين لنكبة فلسطين. وقد صادف هذا اليوم أن استغليت فرصة دعوة وجهتها إلي منظمة حوار أديان يهودية معادية للصهيونية، لزيارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ومسجد الخليل. وقد تسنت لي خلال هذه الزيارة الخاطفة فرصة اللقاء مع بعض القادة الدينيين، ومع مجموعة من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال ويعيشون في سجن كبير يدعى الأراضي المحتلة!
الشيخ إلهي مع مفتي القدس |
كانت الرحلة إذا، ليوم واحد، ولم يكن الهدف منها فقط الصلاة في أولى قبلتي المسلمين، لكن أيضا للوقوف عن كثب ولمعاينة التصميم البطولي لشعب لا يزال ينبض بالحياة والحيوية، على الرغم من معاناته لشتى ألوان الاضطهاد والألم اليوميين، تحت حراب احتلال قمعي بشع لما يربو على الـ64 عاما.
رعى زيارتي، كما أسلفت، حركة حوار أديان تدعى “كابالاه” ومقرها الرئيس في ولاية كاليفورنيا، والتي تتمتع بعلاقات طيبة مع الجاليات المسلمة في مختلف أنحاء العالم، ومع الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.
وكانت هذه المنظمة المعادية للصهيونية قد طلبت مني، انطلاقا من معرفتها بي كناشط في ميدان التقارب بين الأديان والحضارات منذ أن قمت بخدمة “دار الحكمة الإسلامية” في العام 1995، أن أستضيف زعيمها راو بيرغ في مدينة ديربورن.
ولقد أراد السيد بيرغ الحضور إلى مدينة ديربورن، من ولاية كاليفورنيا للقاء أئمة المساجد في منطقة ديترويت، لأجل التعريف بأتباع حركته ومعتقداتها التي ترتكز على مبدأ معاداة الحركة الصهيونية وعدم الاعتراف بالكيان الذي أنشأته في فلسطين المحتلة تحت إسم “إسرائيل”.
وأراد زعيم الحركة أن يفتح حوارا مع الجالية المسلمة للقول بأنهم على استعداد للعمل معها من أجل العدالة، وللتأكيد على أن ليس كل اليهود صهاينة بالضرورة، ولبحث سبل الإفادة من المبادئ الدينية السمحة لأجل وضع حد للحروب والاعتداءات وإحلال السلام في هذا العالم.
غني عن القول أن هذا الطرح ليس جديدا على جاليتنا. فنحن، في هذه الجالية، استضفنا مجموعة من الحاخامات اليهود في العام 2006، خلال العدوان الإجرامي الإسرائيلي ضد لبنان، وهؤلاء الحاخامات، كما يعرف معظم أبناء جاليتنا شاركوا في المسيرة الحاشدة في شوارع ديربورن، والتي استقرت يومها في منتزه “هيملوك”. وقاموا بعد ذلك بالسفر إلى إيران وعانقوا الرئيس الإيراني (محمود أحمدي نجاد)، ثم زاروا لبنان للصلاة على قبر الشهيد عماد مغنية، وكانوا موضع ترحيب من المقاومة وأهلها في جنوب لبنان.
وقد كنت على معرفة ببعض قيادات حركة “كابالاه” وقرأت جزءا من كتابهم المسمى “زوهار”، لكني طلبت منهم تزويدي بتفاصيل أكثر عن معتقدهم ورأيهم بالإسلام والمسلمين.
الشيخ إلهي مع فتية فلسطينيين في القدس |
ولقد تلقيت بالفعل رسالة مطولة من أحد قيادات هذه الحركة ويدعى بيلي فيليبس، أكد فيها ما ورد في القرآن الكريم بأن طوري سيناء وحراء كانا منبعين للوحي الإلهي. وأكدت الرسالة أن لا علاقة لما يسمى بـ”إسرائيل” بالأرض المقدسة.
فـ”إسرائيل” بالنسبة لأتباع حركة “كابالاه” ليست كيانا ماديا-جغرافيا بل هي “كيان روحي مغمور بنور الوعي..” وهذا ما جعل الحركة منبوذة ومحاربة، وفق الرسالة، من قبل المؤسسة الحاخامية الفاسدة، وتعرّضت قياداتها للتشويه والاضطهاد عبر التاريخ.
ولقد صادف أنني كنت على أهبة المشاركة ضمن وفد من عشرة أئمة من ميشيغن في مؤتمر إسلامي في مدينة اسطنبول التركية عندما أبلغني قادة الحركة عن تمكنهم من الحضور إلى ديربورن، مما جعل استضافتي لوفد الحركة برئاسة زعيمها راو بيرغ متعسرة لتضارب المواعيد.
قبل أيام قليلة من مغادرتي اسطنبول، تلقيت دعوة اعتبرتها إشارة ودية من هذه الحركة وجاء فيها “بما أنك موجود في المنطقة، فإننا نرغب في لقائك في مدينة الأقصى (القدس)، مما يتيح لك التمتع بتجربة فريدة، على أن تكون هذه الزيارة فرصة لبحث اختيار موعد جديد للقاء يجمعنا في ميشيغن”.
وأصدقكم القول إنني تشاورت في الأمر مع الأئمة والأخوة المشاركين في المؤتمر، وقد ذكرني أحدهم بقصة “وابِصَةُ”: الرجل الذي سأل النبي (ص) عندما نزلت الآية الكريمة: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”. قال يا رسول الله: كيف أفرق بين البر والإثم؟ فأجابه النبي (ص) : يا وابِصَةُ: استفتِ قلبك!
أحبائي، وأهلي وأبنائي وبناتي في جاليتنا الكريمة، أطلت في عرض الظروف التي أحاطت بزيارتي إلى القدس الشريف والأقصى المبارك. لعلي أضأت عليها بما يكفي، فأنا أعرف نفسي.. فقد كنت في العشرين من عمري عندما جرى اعتقالي على أيدي رجال الشرطة السرية للشاه. قالوا لي آنذاك إن اعتقالي جاء لسببين: السبب الأول مناهضة الشاه، والسبب الثاني مناهضة إسرائيل والظلم الذي ألحقته بالشعب الفلسطيني. ومن يريد أن يطلع بصورة أوفى على موقفي من النظام الصهيوني يمكنه مراجعة مقالاتي الكثيرة في صحيفة “ديترويت نيوز” خصوصا إبان عهد إدارة بوش أو البحث على الانترنت عما يقوله الصهاينة بحقي وسوف يجد منه الكثير الكثير.
الشيخ إلهي مع فتيات فلسطينيات في القدس |
وبالمناسبة أود التذكير بأن أيا ممن وجهوا النقد لزيارة اليوم الأوحد إلى الأقصى الشريف لم يكتب جملة للدفاع عن الحق عندما كنت أتعرض لهجوم إعلامي أسبوعي من أعضاء لجنة “آيباك” الصهيونية الأميركية.
أعزائي وأحبتي،
إن موقفي وغضبي من إسرائيل هو أقوى وأشد اليوم منه قبل زيارتي للقدس، بسبب ما شاهدته بأم عيني هناك، وإذا تسنى لأبناء الشعب الأميركي أن يروا ما رأيت فمن شأن ذلك أن ينقلهم إلى جانب الحق في هذا الصراع، أي إلى جانب المضطهدين الفلسطينيين.
بالطبع فإن أياً منا لا يمكنه أن يوافق على أية زيارة من شأنها أن تقدم أي دعم لدولة الاغتصاب والعدوان كأن تتم الزيارة، مثلا، بدعوة من هذا الكيان الغاصب ويتخللها لقاءات مع مسؤولين ومصافحتهم والتحادث معهم. وهذا ما لم يحصل البتة خلال زيارتي.
أيها الأعزاء،
أعلم أن بين الداعمين المخلصين للقضية الفلسطينية قد توجد بعض الاختلافات حول أفضل سبل مقاربة هذه القضية العادلة ومساعدة أصحابها. وهؤلاء المخلصون، وإن اختلفت آراؤهم أحيانا، عليهم الإصغاء لبعضهم البعض باحترام وبعيون وقلوب مفتوحة وترك الحكم العادل على تصرفات أي منا لله الذي وحده يعلم ما في القلوب وأدرى بالسرائر والأعمال منا جميعا.
فأنا لم أكن بحاجة إلى تأشيرة لدخول الأراضي المقدسة (كوني من حملة الجواز الأميركي) ولو تعلق الأمر بالتقدم من سفارة للكيان الصهيوني لطلب الحصول على تأشيرة وأقدمت على ذلك، لوجدت للانتقاد عذرا اكبر. لكن هذا الأمر لم يحدث.
وقد كان لمصادفة يوم زيارتي في ذكرى النكبة وقع مؤلم على نفسي وقلبي وأنا أشهد على المواجهات بين أطفال الانتفاضة وجيش الاحتلال القمعي. وهذا ما رسخ في نفسي بوقع أشد الظلم الأكبر الذي حمله القرن الماضي، في احتلال فلسطين وتشريد أهلها.
أحبائي،
لقد قمت بهذه الرحلة لأعاين عن قرب ولأعبر عن تعاطفي وتضامني مع شعب لايزال حيويا وقويا بعد مرور 64 عاما من الاضطهاد العنصري والقمع والتطهير العرقي والقصف البربري وجرائم الإبادة والعيش في السجون ومعسكرات الاعتقال الجماعية. وإن مقصدي كان إبلاغ المدافعين الحقيقيين عن المسجد الأقصى المبارك بأننا نتألم لآلامهم ولم ننسهم، وللقول لهم إننا نعرف بأن أرضكم محتلة وبيوتكم مهدمة، وأطفالكم يقتلون وأبسط حقوقكم منتهكة، وبأنكم الأعلى مظلومية بين شعوب هذه الأرض.
أحبتي وأهلي، دعونا نطرح السؤال: هل زيارة الأقصى تحت الاحتلال حرام أم واجب، أم ليست هذا ولا ذاك؟
لقد أجاب الفقهاء المسلمون (الشيعة والسنة)عن هذا السؤال من عدة زوايا. الأمر الذي نتفق عليه جميعا هو أن المسجد الأقصى (بما في ذلك قبة الصخرة) هو ثالث أقدس المساجد في الإسلام بعد مكة والمدينة ومن واجب كل مسلم العمل على حمايته وتحريره.
وغني عن القول إن المخطط الصهيوني يهدف الى هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم فوق أنقاضه، والى تهويد القدس وتفريغها من سكانها العرب عبر الارهاب الذي تمارسه المنظمات الصهيونية والتطهير العرقي المنهجي، تمهيدا لجعل القدس الشريف عاصمة أبدية وغير مقسمة لكيانهم الغاصب.
ولقد التقيت بمفتي القدس الشيخ محمد حسين في مكتبه وقال لي: “أرحب بك لأنك قادم لزيارة السجناء، لا السجانين”. وسلمني نسخة من فتواه التي يشجع فيها على زيارة الأقصى، إذا كانت النية معقودة لمساعدة القضية الفلسطينية، ورفض الاحتلال.
وقد طلب المفتي من الجالية المسلمة في أميركا أن تمارس الضغط على الإدارة لإنهاء سياساتها المجحفة بحق الشعب الفلسطيني.
ومن جانب آخر، للمفتي الدكتور عكرمة صبري الذي يرأس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس وأحد أئمة المسجد الأقصى رأي مختلف يرفض فكرة زيارة المسجد الأقصى في ظل الاحتلال، اذا هذا النوع من الزيارات يتطلب تأشيرة دخول إلى “إسرائيل” مما يعني اعترافا ضمنيا بدولة الاحتلال وخطوة على طريق التطبيع مع المحتل. لكن المفتي صبري لا يرى ضررا من زائرين لا يحتاجون إلى الحصول على تأشيرات دخول (مثل المواطنين الأميركيين).
وقال المفتي صبري “إنني أختلف مع الشيخ القرضاوي الذي يحرم السفر الى القدس بشكل مطلق في حين أنني أجيزها للمسلمين الذين يحملون جنسيات بلاد أجنبية لها علاقات مع إسرائيل، وللفلسطينيين المقيمين في الخارج”.
وقد تصاعد الجدل بعد زيارة مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة للمسجد الأقصى في نيسان (أبريل) الماضي. وقد سمعت هذا الجدل في صفوف الناس هناك أيضا، فبعضهم يقول إن مقاطعة الفلسطينيين أمر حرام. يقولون: فليأت العرب والمسلمون، ويثبتوا حضورهم لكي لا يعطوا للصهاينة فرصة إفراغ المدينة من سكانها العرب، فإذا انتهوا من فلسطين، فسيتبع لبنان وسوريا وغيرها من البلدان، لأن حلم الصهاينة دولة تمتد بين النيل والفرات.
أحد الشبان الفلسطينيين قال لي لو أن النبي محمدا (ص) وأصحابه حاولوا دخول مكة عندما كانت تحت سيطرة المشركين فلن يكون ذلك بأي معنى محاولة للاعتراف بسلطتهم. الأقصى هو قبلتنا الأولى. والآن هو تحت سيطرة المحتلين. هذه أرضك وملكك ولك الحق في زيارتها.
وقال آخرون: إن النبي (ص) زار الأقصى عندما كان تحت سيطرة الرومان والمسلمون زاروا المدينة عندما كانت تحت الاحتلال الصليبي.. نحن بحاجة لكم هنا في القدس. نحن محاصرون ومعزولون.. الوضع في الضفة الغربية وغزة خاصة هو أسوأ، ولا يصدق.. حتى جيمي كارتر الرئيس الأميركي الأسبق بكى عندما عاين عن قرب جرائم إسرائيل في غزة، وهذا ما أوحى له بتأليف كتاب “أباراتيد” (الفصل العنصري).
أعزائي،
لقد كنت هناك ليوم واحد فقط، ورأيت الناس الذين يعيشون في معسكرات محاصرة، على بعد ميل واحد من المسجد الأقصى، ولم يتسن لهم فرصة واحدة لمغادرة سجنهم الكبير لزيارة المسجد.
عندما سئلت غولدا مائير ما هو أقسى يوم في حياتها أجابت: اليوم الذي أحرق فيه المسجد الأقصى (1969) وعندما سئلت عن أسعد يوم في حياتها أجابت أيضا: عندما أحرق المسجد الأقصى. وعندما سئلت كيف يكون ذلك، قالت: اليوم الذي أحرق فيه الأقصى ظننت أننا بمواجهة آخر يوم في حياة إسرائيل، ولكن عندما شاهدت ردود المسلمين فهمت أن إسرائيل آمنة في وسط العالم العربي.
أحبائي،
نحن عائلة واحدة. وبعد مشاهدة جرائم إسرائيل في لبنان والمجزرة المتكررة في قانا وضحايا القنابل الفوسفورية لم يعد ثمة مجال للصلح أو الاعتراف أو التطبيع أو مسايرة المحتلين. والله عليم بما في قلبي وفي نيتي وبطبيعة زيارتي التي أسيء فهمها. وربما تألمت من جراء حصولها قلوب ونفوس بعض الأخوة والأخوات. أطلب من الله المغفرة لنفسي ولهؤلاء الذين أساؤوا فهمي وأصدروا اتهامهم وحكمهم بناء على تخمينات. فالذي قام بالزيارة هو الشيخ إلهي نفسه الذي بدأ عمله معكم منذ 20 عاما وإذا نسي أي منكم مواقفي الدينية والسياسية، فليعد إلى ضميره لبرهة وليستعرض سيرتي وعملي في الدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين.
ولعل ما يثير ألمي ويحز في نفسي أنه في خضم خمسة أسابيع من الكلام المتدوال حول الزيارة لم يتصل بي مباشرة سوى شخص واحد ليسألني ويستفسر مني حول ظروف الزيارة وأسبابها، وخرج بانطباع إيجابي واعدا بايضاح موقفي إلى كل من يعرفهم.
أفلم يكن أجدر بالأخوة الذين اكتفوا بلومي عن بعد أن يتصلوا بي للوقوف على حقيقة هذه الزيارة مني شخصيا؟
لذا أرجو من كل الغيورين والمهتمين، إذا كانت لديهم أسئلة أو استفسارات أن لا يترددوا في الاتصال بي، ةوأن يفتحوا قلوبهم وعقولهم، مثلما فتحت قلبي وعقلي لهم في هذه الرسالة، من أجل إزالة أي لبس أو غموض، ولوضع الأمور في نصابها الصحيح، بعيدا عن أية تأويلات في غير محلها.
{يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}
أختم لأقول لكل المخلصين والمحبين والغيورين على قضية فلسطين: إنني، بكل صدق، لو كنت أعلم أن هذه الزيارة سوف تحدث كل سوء الفهم هذا، فإنني، لم أكن لأقوم بها، رغم حسن مقصدي ونبل غايتي، والله من وراء القصد وهو على ما أقول شهيد. غفر الله لي ولكم ولجميع المؤمنين.
إمام ومرشد دار الحكمة الاسلامية –
Leave a Reply