كان للمدة الطويلة التي استغرقها إعلان رئيس المحكمة الدستورية العليا المصرية، فاروق سلطان، لنتائج الإنتخابات الرئاسية، أثرٌ في مشاعر المصريين واختبار قدرتهم على الصبر، وقد حفلت مواقع التواصل الإجتماعي بتغريدات تتهكم على الوقت الطويل الذي تلا فيه فاروق النتيجة والتفاصيل المملة والدقيقة التي ضيعت الوقت، فيما اعتبره البعض إيذاناً بإعلان الفريق أحمد شفيق فائزاً بالرئاسة، وذلك قبل أن تتضح الأمور ويُعلن اسم محمد مرسي. كما حاول المستشار فاروق الرد على بعض الاتهامات السابقة الموجهة للمحكمة الدستورية بتأخيرها إعلان الفائز واحتمال انحيازها لطرف على حساب الآخر، أو ارتهانها لإملاءات المجلس العسكري، مشدداً على استقلالية القضاء المصري. ولأن خطاب الإعلان عن الرئيس انطوى على درامية عالية، فقد ينسى التاريخ البعيد من فاز في انتخابات مصر الحالية، ليتذكر فقط الخطاب نفسه وتلاعبه بأعصاب المصريين. والحقيقة أنه عندما نعود لقراءة الخطاب بعد فترة على إعلان نتيجة الانتخابات، وننسى إغراقه الممل في التفاصيل، ربما ندرك أن ذلك راجع إلى تجربة الديمقراطية الفتية في مصر، باعتبارها أول انتخابات رئاسية حرة ونزيهة يخوضها المصريون. لذا أغرق سلطان في التفاصيل والدفوعات وأنواع الطعون والشكوك، كتذكرة بالطابع الفوضوي الذي عادة ما تتسم به الديمقراطيات الوليدة والمشكلات المرتبطة بها. فالديمقراطية كما تُعلمنا التجارب الغربية، تغطي نتائجها ومنافعها على بعض الإشكالات المرتبطة بسيرورتها، لا سيما عندما تكون نتيجة الانتخابات متقاربة كما في الحالة المصرية.
وكما جاء في إعلان اللجنة الانتخابية العليا المخولة بالإفصاح عن النتائج، لم يكن الفارق كبيراً بين الفائز والمهزوم، في دلالة واضحة على عمق الإنقسام الذي يخترق الشارع المصري، رغم أن عدد المصوتين لم يتجاوز نصف نسبة الناخبين المسجلين، حيث يبدو أن ما يفوق النصف بقليل من المصوتين اختار مرشح “الإخوان”، محمد مرسي، فيما فضلت نسبة أقل قليلاً التصويت لصالح أحمد شفيق. ولا يعني ذلك أن جميع من انتخبوا مرسي فعلوا ذلك لاقتناعهم به كمرشح، أو بأجندته الإنتخابية، بل خوفاً من عودة النظام القديم الذي يمثله شفيق، كما أن الأصوات التي فاز بها هذا الأخير لا تعني أنه حصل عليها من باب اقتناع المصريين به، بل فقط لتخوف العديدين من حكم مرشح “الإخوان”.
لكن مهما يكن الأمر، وبصرف النظر عن المتحفظين على صعود “الإخوان” للرئاسة، يتعين الاعتراف بنزاهة الإنتخابات الأخيرة، وبأن مرسي صار رئيساً لمصر معتلياً ذات الكرسي الذي اقتعده من قبله عبدالناصر والسادات ومبارك، مع اختلاف في الحيثيات والأبعاد. فحتى تنجح التجربة الديمقراطية في مصر، عليها القطع تماماً مع صناعة الفرعون، كما يتعين عليها تحجيم دور الجيش ومنع سيطرته التامة على السلطة. وإن كان هذا الحرص على سلطة المدنيين يجب أن يأتي بالتدريج وبحذر بالغ.
واليوم وبعد هذه المحطة المهمة في الديمقراطية المصرية، وانتخاب أول رئيس يختاره الشعب بملء إرادته، ستبقى التحديات الكثيرة التي تنتظر المسيرة المصرية، حيث لن تكون الديمقراطية عملية ناجزة بل سيرورة متواصلة في ظل مراكز القوى الأساسية التي بدأت تتشكل في المشهد السياسي المصري. فمن جهة هناك جماعة “الإخوان المسلمين” كحركة تتمتع بالقدرة على التنظيم والتعبئة، كما في تقديم الخدمات والحصول على الأصوات، ومن جهة أخرى هناك المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد أثبت الطرفان معاً قدرتهما على استقطاب الأتباع داخل المجتمع المصري وبرهنا على قوة لا يستهان بها. ومن المؤكد أن مستقبل الديمقراطية في مصر سيحدد من خلال العلاقة بين القوتين الأساسيتين اللتين تحكمان المشهد المصري وتؤثران على الشارع، دون إغفال -بطبيعة الحال- للدور الذي يلعبه شباب الثورة في تحريك المجتمع والدفع بمطالب الديمقراطية والدفاع عن مبادئ الثورة. ورغم الحالة المتشظية لهؤلاء الشباب حالياً، فإنه ما أن تستقر الأمور ويبدأ التدافع السياسي حتى تظهر قدرتهم على تنظيم أنفسهم في إطار هيئات سياسية تضمن لهم صوتاً في تحديد الخيارات الكبرى للبلد، وقد لا يتم ذلك قريباً، لكن من المتوقع أن ترص قوى الثورة صفوفها عبر التراكم الزمني.
ويبقى أن تحترم القوتان الأساسيتان، الجيش و”الإخوان”، قواعد اللعبة الديمقراطية، وعدم الانجرار إلى مغريات الاستحواذ على السلطة وإقصاء باقي الحساسيات السياسية. ولعل جماعة “الإخوان” أول من يجب أن يعي هذا المعطى بعد المقاومة المجتمعية الشرسة التي واجهتها منذ اندلاع الثورة، فقد رأت العديد من فئات الشعب المصري محاولاتها السيطرة على البرلمان، ومن ثم التقدم للرئاسة بمرشح ينتمي إليها، بل والتحكم في تشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، محاولةً للإستئثار بالسلطة وتغيير ملامح الدولة المصرية، الأمر الذي انعكس في تراجع شعبيتها كما أظهرت نتائج الإنتخابات الرئاسية.
كما يتعين على المجلس العسكري، الذي سعى إلى فرض وجوده أمام “الإخوان”، الإستفادة من تجارب الدول الأخرى التي فشلت فيها محاولات العسكر الإنخراط في السياسة وتحقيق التنمية. وبدلاً من تضييع مزيد من الوقت في الصراع على السلطة، خلال هذه المرحلة الصعبة من تاريخ مصر، يتعين على الجيش و”الإخوان” إشراك القوى السياسية الأخرى والانصراف إلى حل المشاكل المحيطة بالشعب المصري وتحسين الخدمات، علّ ذلك يساعد في نجاح الديمقراطية الوليدة ويشد من عضدها.
Leave a Reply