أي دور تلعبه اللغة العربية في أوساط العرب الأميركيين وأبنائهم في أميركا؟ وهل الحفاظ علىها ونقلها وتدريسها للأجيال الجديدة المولودة هنا، ضرورة أم مجرد ترف؟
لا شك أن هناك اختلافات واضحة في مستوىات إجادة اللغة العربية بين الأجيال المختلفة في الجالية. فهناك جيل مهاجر، وهو يضم الذين ولدوا في دول عربية وهاجروا الى الولايات المتحدة، وهؤلاء بمعظمهم، بطبيعة الحال، يجيدون اللغة العربية تحدثاً وقراءة وكتابة.
وهناك جيل هجين يضم المهاجرين الذين انتقلوا للعيش مع ذويهم في أميركا في سن صغيرة (سن الطفولة) وآخرين ولدوا هنا لمهاجرين جدد لكنهم درسوا اللغة العربية في مدارس خاصة أو مشتركة مما ساهم في الحفاظ على الارتباط نوعاً ما باللغة الأم. ولكن هذا الجيل الهجين أوجد لغة هجينة تعتمد على العربية المحكية المطعّمة بمصطلحات إنكليزية.
وهناك جيل من المهاجرين القدامى، وحتى الجدد، الذين لم يعلموا أبناءهم اللغة العربية، فأنشأوا جيلاً لا يعرف قراءة وكتابة اللغة العربية وبالكاد يفهمها.
قد يظن البعض أن الظروف حكمت على الأجيال القديمة وتحكم على الأجيال الجديدة ودفعتها الى نبذ تعلّم العربية، ولكن في الواقع بعض هؤلاء تخلى عن اللغة الأم بشكل طوعي.
فحتى في العقود الأولى من هجرة العرب الى أميركا كانت هناك جهودا تبذل في مجال التربية وتعليم اللغة العربية، وإن كانت مقتصرة في البداية على بعض المنشورات والمطبوعات باللغة العربية والدروس الخصوصية، والتي لعبت دوراً هاماً في ربط المغتربين الأوائل في ميشيغن بلغتهم الأم.
أما على مستوى الولايات المتحدة فكان للمهاجرين العرب تاريخ بارز وإنتاج فكري عربي مضيء، حيث انتعشت الحركة الأدبية وأصدرت المطبوعات باللغة العربية لاسيما في نيويورك، مما مكن المغتربين الأوائل من الإطلاع على أخبار بلادهم وأهلهم وراء البحار.
ففي سنة 1892 صدرت في نيويورك صحيفة “كوكب أميركا” لتكون الصحيفة الأولى الناطقة بالعربية، وكان لها الفضل في المحافظة على إبقاء اللغة العربية حية في نفوس أوائل المهاجرين، وتوالت بعدها صدور الصحف بالعربية، ففي سنة 1879 صدرت صحيفة “الأيام” وفي سنة 1898 صدرت في فيلادلفيا جريدة “الهدى”، كما صدرت “المهاجر” في واشنطن سنة 1903. وقد توالى صدور هذه الصحف بين فترة وأخرى ومعظمها يهدف بشكل رئيسي الى إبقاء الثقافة واللغة العربية حيَة في أذهان المهاجرين.
وقد أصبح تعليم اللغة العربية للجيل الثاني من المهاجرين أحد الموضوعات المشوقة والمفيدة في مجلة “العالم السوري”. ففي سنة 1928 نشرت تلك المجلة رسالة صدرت في بروكلين (نيويورك) تشير الى التخوف من اضمحلال اللغة العربية لدى الجيل الثاني. وتحض على وجوب تعلمها، جاء فيها: “إنه من الواجب علينا أن نعطي اللغة العربية العناية التي تستحقها.. فهي ما يميزنا عن غيرنا في أميركا، ولذلك فإنه لمن الواجب بذل كافة الجهود الممكنة من أجل الحفاظ على اللغة ونشرها”.
وأضافت الصحيفة الصادرة من قلب نيويورك التي كانت تضم الحي العربي المعروف بـ”ليتل سيريا” (سوريا الصغرى) “إن عدم تعليم اللغة العربية يعتبر تقصيراً من قبل الآباء تجاه أبنائهم، ذلك أنه بنفس الحماسة التي نرسل فيها أبناءنا الى معلم خصوصي ليعلمهم العلوم مثلاً، يمكننا، بل يجب علينا أن نرسلهم إلى معلم يعلمهم لغتنا العربية، ويجب أن يكون التحدث بالعربية في البيت قاعدة عامة”.
ومؤخراً أدرجت اللغة العربية في مناهج التعليم الرسمي في مدارس نيويورك بعد أن اعتمدته مدرسة فيها تلزم التلاميذ تعلم اللغة العربية، لتصبح المدرسة الأولى التي تقوم بهذه الخطوة في المدينة. وابتداء من العام الدراسي المقبل سيتعين على جميع التلاميذ من الصف الثاني الى الخامس في مدرسة “بي أس 338” بمنطقة هاملتون هايت في مانهاتن، تعلم اللغة العربية من خلال حضور حصة لمدة 45 دقيقة مرتين أسبوعياً، حيث تتساوى مدتها مع العلوم والموسيقى. ويقول مدير المدرسة نيكي كرم: “إن تعليم العربية بدل الفرنسية والإسبانية الأكثر شيوعاُ سيمنح المدرسة مكانة مرتفعة في النظام التعليمي”.
وبالعودة الى ديربورن، التي لا يمكن لأي شخص يريد أن يتناول قضايا العرب الأميركيين تجاهلها، كونها تضم أكبر جالية عربية، تجد اللغة العربية حاضرة بقوة، فمثلاً عندما تشق طريقك إلى شارع وورن أو شايفر أو ديكس تلفت نظرك اليافطات العربية في كل مكان…
ومن المعروف أن الجالية العربية في ميشيغن أسسها اليمنيون، بعد انتقال الآلاف منهم مع عائلاتهم للعمل في مصانع شركة “فورد” لصناعة السيارات في العقد الثالث من القرن الماضي.
وتدين الجالية العربية في منطقة ديربورن لليمنيين الأوائل الذين ثبتوا سريعاً الثقافة العربية، التي يعتبر اليمن ينبوعها الأساس، وهيئوا لهجرات جماعية للبنانيين في السبعينات والثمانينات والتسعينات ثم العراقيين الذين تدفقوا الى منطقة جنوب شرق ميشيغن على دفعتين، الأولى في أوائل التسعينات والثانية بعد غزو العراق عام ٢٠٠٣.
وشكلت الكثافة العربية في منطقة ديربورن أرضية خصبة لإنشاء المدارس التي تعلّم اللغة العربية، والتي وإن شابها سوء الرؤية والتنظيم في بعض الحالات، إلا أنها أنشأت جيلا من العرب الأميركيين المرتبطين بثقافتهم ولغتهم الأم التي لعبت المساجد والمراكز الدينية الإسلامية دوراً في تعزيزها.
قلق وتفاؤل ولامبالاة
ولكن الوضع ليس وردياً تماماً، فما سلف أبعد اللغة العربية عن الانقراض بين المهاجرين، لكنه لم يؤمن بنية تحتية لإنتاج ثقافي عربي حقيقي في ديربورن يجذب الأجيال الناشئة التي باتت تعاني من ازدواجية ثقافية قد يكون لها تبعات سلبية مستقبلاً.
تقول “حسناء” وهي أم مصرية مهاجرة: “أنا خائفة لأن أطفالي يقولون لي: نحن لسنا مصريين، نحن أميركيون، نحن نعيش هنا… وينهون النقاش”.
كما يقول أب فلسطيني مهاجر: “أواجه صعوبة في تقوية اللغة وسط أولادي وبناتي. إنهم دائماً يتفرجون على التلفزيون (على قناة ديزني) والرسوم الكارتونية”. وأضاف: “هناك مشكلة أخرى، فأنا أحس بالراحة عندما أتحدث مع أطفالي بالإنكليزية لأنني أشعر بأنهم يفهمونني أكثر”.
أما زينب، وهي أم لبنانية لشابين (35 عاماً و31 عاماً)، “عندما جئت الى ديربورن منذ 30 عاماً لم يكن هناك مدارس حكومية أو مشتركة تهتم في تعليم اللغة العربية، والجو العام لم يكن يساعد أولادي على التكلم بالعربية، لأن أصدقاءهم في المدرسة معظمهم من الأميركيين فأصبح من السهل عليهم التكلم بالانكليزية التي أصبحوا يمارسونها بشكل دائم في حياتهم اليومية”.
حال العائلة يثير غصة في قلب الأم، “عائلتنا لبنانية بالاسم ولكنها لا تعرف من لغتها وثقافتها سوى الانتماء الى أرض الأجداد.. حتى أن الأولاد متزوجون من أميركيات”.
في الضفة الأخرى تقول هويدا (من لبنان): وهي أم لثلاثة أولاد “لغتي العربية جيدة وأنا أفتخر بهويتي، مع العلم أني ولدت ونشأت في أميركا”. وتعدد هويدا الأسباب التي جعلتها مرتبطة بشكل وثيق بلغتها وثقافتها إذ تقول “هذا يعود الى أكثر من سبب، أولاً: اهتمام الأهل بتعليمي العربية وتواجدي في بيت جدي كثيراً في الصغر وتكلمي معهم لأوقات طويلة ما جعلني قوية باللغة العربية، كما سفري الدائم الى لبنان وتواصلي مع الأهل ساهم أيضاً بتقوية عربيتي. أما بالنسبة لأولادي فاهتمامي بتعليمهم العربية ومتابعة دراستهم، جعلهم يتكلمونها بطلاقة”.
أما المهندسة علا فتؤكد أن “الهوية والافتخار بها لا يشترطان إجادة اللغة”. ولكن أحمد حسين يقول في هذا الصدد: “العربية والإسلام شيء واحد، كيف أنسى العربية وأنا مسلم؟ كيف أفعل ذلك وأنا أشاهد مسلمين عرب يهتمون باللغة العربية؟”. وبالفعل لعبت المراكز الدينية دوراً هاماً في تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم جنباً الى جنب.
أما أبو رامي محمود وزوجته (من سوريا) فقد جعلا من تعليم اللغة العربية لولديهما نورهان (17 عاماً) ورامي (12 عاماً) جلّ اهتمامهما. فعندما جاؤوا قبل خمس سنوات الى أميركا، سجلا نورهان في مدرسة عربية بمساعدة الأخ الأكبر أبو أسعد والآن تخرجت من الثانوية وهي تتكلم اللغتين العربية والانكليزية بطلاقة. أما رامي، يقول الأب، “فكان يغرق في أجواء الثقافة الأميركية المحيطة بنا إلا أنه يتكلم العربية جيداً بسبب حثه الدائم على التكلم باللغة العربية التي كاد رامي أن يركنها في غياهب النسيان”. رامي يقول “نحن فخورون بأننا عرب”.
ويلعب الأهالي دوراً بارزاً في نقل الثقافة واللغة الي الأبناء، وهذا ما يؤكده هادي شمص (17 عاماً) “أنا هنا مع والدي ووالدتي منذ خمس سنوات والحمد لله أتكلم اللغة العربية بطلاقة ولم أنسها والفضل يعود لهما”.
ويقول كنان قدور (أبو عقيل): “لقد هاجرت مع زوجتي وأولادي الأربعة عقيل ومهدي وفاي ورقية، وكنا نهتم بأن تكون اللغة العربية لغة التحادث بيننا في المنزل معظم الأوقات، هذا الأمر جعلهم يحافظون على لغتهم الأم، على الرغم أن مدارسهم وتعاملاتهم اليومية خارج المنزل كلها بالإنكليزية”. وتقول أم عقيل: “عند دخول أولادي البيت، يكون الكلام بالعربي فقط”.
من خلال اللقاءات التي أجريت لهذا التقرير، وجدنا أن معظم الأهالي متمسكون بنقل الإرث الثقافي العربي بما فيه اللغة العربية الى أولادهم وبناتهم، ولكن كثيرين أعربوا عن تقصيرهم في ذلك، ويعترفون أن “المجتمع الأميركي أقوى وأكثر تأثيراً”، خاصة وأن الثقافة الأميركية واللغة الإنكليزية صارتا ثقافة ولغة العالم الطاغية.
إذا هو صراع أم تنوع وتكامل؟ سؤال كبير يطرحه العرب الأميركيون، ولاسيما المسلمين منهم.
وهذا السؤال بات موضع اهتمام ومحور مناقشات لعدة مؤسسات عربية وأميركية. فمثلاً ”اللجنة العربية الأميركية لمكافحة التمييز” (أي دي سي) تناقش هذا الموضوع بشكل سنوي تقريباً ، وتوصلت في ذلك الى عدة استنتاجات منها أن المهاجرين العرب من المسلمين يجدون صعوبة في الاختلاط مع الأعراق والأديان غير العربية بحكم الثقافات التي تربوا عليها لاسيما بعد أحداث “١١ أيلول” وما تلاها من موجات “الإسلاموفوبيا” التي استهدفت المهاجرين المسلمين في الولايات المتحدة. لكن الأبناء والأحفاد يتعرضون للاختلاط اليومي بالثقافة الأميركية منذ مرحلة الروضة وحتى الجامعة مروراً بطبيعة الحياة اليومية، ما جعلهم يتأثرون بالثقافة الأميركية أكثر. ولاحظت “أي دي سي” أن الكثير من المهاجرين يتزوجون بنساء عربيات في أوطانهم حتى بعد هجرتهم الى أميركا، كما يتمنون أن يتزوج أولادهم وأحفادهم بنساء عربيات، ولكن تحقيق ذلك ضئيل نسبياً على مستوى البلاد، وإن كان مرتفعاً في ميشيغن.
يريد المهاجرون العرب من الجيل الأول والثاني التحدث باللغة العربية وعدم نسيانها، وتعليمها لأبنائهم وأحفادهم، لكن عدد الأبناء والأحفاد المولودين هنا والذين يجيدون العربية كتابة وقراءة قليل جداً إن لم يكن معدوماً.
Leave a Reply