كوتشينه سياسية: مصير العرب تحكمه «لعبة ورق»
ودارت الايام: دوام الحال من المحال
لعبة الأيام دوّارة لا يكبر عندها كبير ولا يصغر عندها صغير، ترفع المنازل والأقدار ثم تنزل بها الى أسفل قرار، وسبحانه مغير الأحوال، فالشعوب التي كانت تقود الأمم وتبني الحضارات تحولت الى «لا حول ولا قوة لها»، وتداعت عليها الامم كتداعي الأكلة الى قصعتها وما أدراك ما قصعتهم برور وبحور وآبار من الغاز والبترول واموال طائلة «لا تأكلها النيران».
وُضعت الخرائط على الطاولات وتحلّق المنتصرون.. أما العرب الذين لم يدخلوا بإرادتهم تلك الحروب التي سميت عالمية، فقد كانوا حطباً لها بعد أن رمى بهم الأتراك العثمانيين في أتونها ولم يكن لهم فيها لا ناقة ولا حتى فرّوج..
رُسمت الخرائط للمنطقة وقُسمت بلاد العرب الى «شقفات» سميت بعد ذلك دولاً. دأب «أولي الأمر» فيها من مشائخ وحكام على التناحر فيما بينهم بعد أن «تفرقوا أيدي سبأ» ورغم محاولات بعض شرفائهم النهوض، إلاّ أنّ الطوابير الخامسة وضعت عصياً في عجلاتهم وظل أمر العرب يراوح مكانه بين مد وجزر الى حين انتفاضة بعض العرب في ثورات كان من المفترض أن تكون ربيعية إلا انه تم الالتفاف على بعضها لتركب القطار الصحراوي، أما بعضها الآخر فأُريد له أن يكون تدميرياً وانتقامياً، ومازال بعضها الآخر في مخاض تحقيق أهداف الثورة في ظل تجاذبات واختلافات قد تؤبد ازمات الماضي ومشاكله ليظل الشعب يتساءل ما الذي يحصل؟ هل قمنا بثورة أم كانت مجرد منامة وأضغاث أحلام؟
صعود وهبوط: بورصة السياسة العربية
قرر الذين يملكون أغلب أسهم بورصة السياسة العربية، ومنذ فترة، أن يبدأوا عملية خلط الأوراق واعادة ترتيبها وفق استرتيجيات ليس للعرب فيها في هذه المرة أيضاً لا ناقة ولا حتى صوص. البداية كانت في لبنان الذي بني طائفيا ثم أعيد ترسيخ طائفيته في الطائف على اساس تأبيد العلة، فبقيت بلاد الأرز، كالعادة، غارقة في صراعاتها التي تشتعل في صالونات السياسة وعلى شاشات القنوات التلفزيونية وفي المؤتمرات الصحفية وتتطور وتتوتر بتبادل تهديدات التي سرعان ما تهدأ ليعود كل الى قواعده سالماً، في حين يُلوى عنق الدولة التي كلما حاولت أن تطل براسها لتمارس سيادتها ضُربت عليه لتعود الى الانكفاء. لا أذن تسمع ولا عين ترى ويادار ما دخلك شر. هكذا تظل أوراق تحريك مكونات المشهد السياسي اللبناني بيد الخارج الذي لطالما حركها حسب أجنداته بتواطؤ من الداخل.
العراق لم يكن حظه أفضل فقد تم تدميره، ثم وقعت قوننة تقسيمه على أسس طائفية اصبحت واقعاً كفيلاً بمنع نهضة بلاد الرافدين ويصعب على أي حاكم مهما كان وطنياً أن يتجاوزها، بعد ان اصطنعت بعض «زعامات» لا يقبل أغلبهم بغير المحاصصة بديلا. وهذه الوصفة المطبوخة خارجياً إنما هيئت لخلق الأزمات وإدارتها من قبل أصحاب لعبة الورق السياسية ليرتبوا البيت بما يخدم مصالحهم.
بلاد السودان، والتي من المفترض أن تكون سلة الغذاء العربية، وبعد سنوات من الصراع الذي لم يحسن ادارته من الداخل، لعب الطامعون به من قوى الخارج وحلفائهم في الداخل أوراقهم بالنفخ في الصراعات لينتهي الأمر الى طريق مسدود، وهو ما كان مطلوباً ليقع تدويل الأزمة وخروجها من يد أهل السودان الى يد الذين تربصوا به شراً ليقرروا استفتاءً شكلياً أدى الى تقسيم أكبر دولة عربية ليقتطع منها جنوبها وتخسر الخرطوم بذلك أكثر من ٧٠ بالمئة من احتياطاتها النفطية مما زاد في تأزيم الوضع الاجتماعي والسياسي مما ينبئ بتقسيم المقسم بعد أن لعبت القوى المتنفذة في لعبة الورق السياسية بمصير البلد المفتوح على مزيد من التدهور.
ويبدو أن بلاد النيل مستهدفة، حيث لم تكن حال مصر أحسن من حال السودان. جاء الدور على أرض الكنانة التي قدمت الأرواح من أجل الإطاحة بفرعونها حسني مبارك في ثورة بدأ الإلتفاف عليها من قبل القوى الداخلية والخارجية ذات المصالح في سعي متواصل الى ترتيب اوراقها ببناء توازنات جديدة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب بين تيار «الاخوان المسلمين» والمجلس العسكري ضمن «خطة ألِفْ» قد تتحول الى «خطة بَاءْ» اذا اقتضت الضرورة لبناء توازنات جديدة تقوم على معادلة «اخوان ضد سلفية» مع مزيد تفتيت الشارع السياسي وصب الزيت على النار عبر تدفق المال السياسي الخليجي وتواصل محاولات إستلاب الوعي عبر ضخ إعلامي ممنهج يعمل على بث الفتنة وتوجيه أنظار المصريين نحو عدو وهمي خارجي.
وفي ظل محاولات اغراق الدول المحورية وذات الادوار التاريخية بالمشاكل والأزمات المتواصلة، تحاول بعض اللوبيات العربية والغربية ملء الفراغ عبر محاولة أعطاء الأدوار الأساسية في قيادة المنطقة العربية الى بعض دول المنظومة الخليجية والدفع بها الى الواجهة وإبرازها على انها دول فاعلة، ولكن رغم مال قارون الذي يصرفونه في سبيل تلميع دورها ورغم مؤسسات الاعلام الضخمة والتي تبث صباح مساء لم يتحقق لتلك «الدول» كسب اوسع الجماهير وذلك لعدة أسباب، أبرزها:
أولاً: فقدان أغلب «قيادات» المنظومة الخليجية المفترض أن تقود العرب للكاريزما، وسط عملية سياسية تبدو للجميع شبيهة بمسرح الدمى أو ما يعرف بمسرح العرائس الذي يقام في الموالد الشعبية حيث ترقص الدمى الخشبية وتتحرك لكن كل خيوطها تظل دائما بيد اللاعبين أو الأراجوزات الذين يحركونها.
ثانياً: لا تتوفر الدول التي تحاول افتكاك الزعامة الى مقومات تاريخية ولا «جيوبشرية» تؤهلها الى لعب دور القيادة، فهي في الغالب دول هامشية مستحدثة لم تبرز إلاّ بعد أن تدفق البترول في اراضيها فأصبحت «سلة مصاري» وبنك لا أكثر. لكن رغم ذلك لم تستطع «مغارة علي بابا» المملوءة بأموال الشعوب المنهوبة أن تكتسب شرعية قيادة المنطقة، التي لم يستطع الماسكون بأوراق اللعبة فيها أن «يضبطوها» على مقاس «زلمهم» الجدد رغم كل المحاولات، لأن الغالبية من العرب تعلم انها دول «من برة هالله هالله ومن جوة يِعلم الله». والعجيب أن هذه البلدان لم تفهم الدرس بعد، وتواصل دورها المشبوه رغم أنها أصبحت منبوذة نتيجة سياستها المعادية لمصالح شعوب المنطقة. والمؤسف أنه بلغ الأمر ببعض «أولي الأمر» الطلب من شعوبهم للتبرع لجمع المال لضخه في مشاريع إشعال الفتن في حين يحاصر ملايين المسلمين في غابات ميانمار وتمارس ضدهم التصفية العرقية.. ولا من مغيث. يستنجد مئات الآلاف من أهل غزة الذين يعانون من انقطاع الماء والكهرباء وبعضهم لا يجد افطاراً يسد به رمقه.. ولا من مغيث. يعاني ملايين الصوماليين من الجوع والعطش والمرض.. ولا من مغيث. ورغم مآسي كل هؤلاء لم تحرك بلدان الخليج ساكناً لإغاثتهم، لكن في المقابل وجد أغلب حكام ومشائخ الخليج، وبقدرة قادر، أنفسهم واقعين في حب سوريا. ولأن حبهم جنونيا لم يخلف للسوريين سوى الاقتتال الداخلي والدمار والخراب.
المأزق السوري: استمرار البحث عن الورقة الرابحة
تقف الأزمة السورية في «زور» لاعبي الكوتشينه على الساحة السياسة العربية.. فرغم محاولات تغيير استراتيجيات اللعب ورمي الأوراق الثقيلة والمختلفة، إلا أنه لغاية الان لم تخرج الورقة الرابحة التي ممكن أن تنهي اللعبة و«تقش» سوريا عن خارطة التوازنات الإقليمية. ورغم أن الواقع يفترض أن يفتك أهل الشام بكل اطيافهم الأوراق التي ظلت الى الآن بيد غيرهم ليرتبوها بالشكل الذي يساعدهم على حفظ الانفس والممتلكات واعطاء الشعب السوري فرصة حقيقية ليقرر مصيره بنفسه وفق المواثيق العالمية والاسلامية والانسانية والتي تُجمع أنه لا سبب مقنع يجعل السوري يقتل أخاه مهما كانت المسوغات.
حقيقة، إن الذين يصرون على أن يتواصل الاقتتال بين أبناء البلد الواحد لا يعملون إلاّ على تدمير سمة لطالما عرف بها أهل الشام وهي التعقل والتعايش السلمي بين طوائفه. هذه السمة التي يبدو أن الناشطين ضمن الأجندات الخارجية لم يعودوا يرغبون في استمرارها.
أولاد أبو لهب يواصلون اشعال النيران في كل بلد آمن. لقد حاولوا في السابق استغفالنا والآن يحاولون «إستهبالنا»، ورغم ذلك سنسأل مرة أخرى: من الدول التي تستحق ان يقع فيها التغيير؟ هل هو البلد الذي فتح أبوابه لكل العرب والمسلمين للإقامة والعمل والدراسة دون قيود؟ أم البلدان التي تجعل التأشيرة والتعقيدات على كل العرب والمسلمين وتفتك جوازاتهم كأنهم مجرمين وتعاملهم كعبيد وفق نظام الكفيل؟ هل هو البلد الذي يأكل ناسها من جهدهم وزرعهم أم البلدان التي تستورد من غيرها لتأكل وتُتخم؟ هل هو البلد الذي تنتشر فيه الجامعات والتعليم المجاني أم البلدان التي تنشر الجهل والرجعية؟
ولكأني أرى الشهباء منشدة من قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي:
إِملأ طريقي بالمخاوفِ والدُّجى وزوابعِ الأَشواكِ والحصباءِ
وانْشر عليه الرُّعب واثر فوقه رُجُمَ الرَّدى وصواعقَ البأساءِ
وتـرنَّموا ما شئتـمُ بِشـَتَـائمــي وتجـاهَروا ما شئـتـمُ بعِـدائي
إنِّي أقولُ لهمْ ووجهي مُشرقٌ وعلى شفاهي بَسْمَةُ استهزاءِ
سَـأعـيشُ رَغْمَ الـدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْـر فـوقَ القِمَّةِ الشَّمَّـاءِ
Leave a Reply