إقترب… أجل أنت.. اقترب أكثر لا تخف، أتسمع شيئا؟ إستمع… أنصت جيداً ولا تدع هذه الأصوات الكثيرة الهائجة وتلك المسترخية والهادئة وكأنها الموج المتلاطم، لا تدعها تلهيك عما تسمع. هنالك صوت واحد بين كل هذا الضجيج من الأصوات المتراكمة يشدو وكأنه خيط مائي ملون يسري بانسيابية بين شلالات من المياه المتدفقة. ربما كانت ثلاث أو أربع تتبعها بتناغم متقن، أما باقي الأصوات المنتشرة في الأثير فلن تكون إلا صدىً لها أو عليها. هكذا فقط ستتعلم كيف تتقن لعبة الإنصات.
لا لا.. الظاهر أنك لا زلت خارج اللعبة، أو ربما لم تفهم جيداً. وأحسب أنك لا زلت جاهلاً بأصول لعبة الأصوات.
حسناً، إسترخِ. حاول أن تأخذ نفساً عميقاً ولا تقلق، فسأعلمك اللعبة، بل سنلعبها سويةً. اصغِ جيداً ودعهم يأتون إليّ.. دعهم جميعاً.
/
أنا سأكون سيدكم.. رئيسكم أنتم الأربعة. سأرتدي بزة ذات طمرين، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فإذا ما أظهرت للجمع نفسي تقمصت ظاهرها، وإن خلوت الى شياطيني كفاني باطنها. سأغني لكم ولغيركم صداحاً ويشدو صوتي في الأرجاء متبتلاً بحب الجمال والعدل.
أما أنت، أيها الأول، فلتتوسط الجمع ولتكن منهم. ارتدِ ما يرتدون وكل مما يأكلون، وإذا أتاك كتابي فارجمه وارمه فأنت منذ اليوم عدو مبين. وإذا سمعت المنادي فصح بما يصيحون. نحن أخوان في الخفاء وعدوان على الملأ.. وليصدح صوتك الشجي مغنياً معهم.
وليكن حليفك الثاني، وليتخذ مني صاحباً أيضاً، يذود بصوته عن حياضي ويذيع صوتي الرحيم إليهم فهو قد اتخذنا صديقين له، فجمع بين السبيلين وإن تناقضا. فليصدح هو الآخر ويغني بمبدأينا وعقيدتينا.
وأما ثالثكم فهو لي صديق قريب، ولأولكم خصم مبين يتخذه عدواً ويريه بأساً وشدة. ويسوم سوء العذاب لإولئك المنتقصين لسنتي والكارهين لطريقتي.. وليصدح بصوته منشداً.
ورابعكم فلا لي ولا عليّ.. يصبح حكماً بين الناس، فإذا ما حانت حينتي ومللت سيماء الصالحين لباساً وأردت لأتباعي ظهورا كان للعامة أمينا مطاعا يحكم لهم بديني مواربةً ويرشدهم لطريقتي توريةً وهم مؤمنون في أمره وأمرهم غير شاكين..
الناس سيرونني رحيماً عادلاً فيما بينهم، أُنزل الغيث فأسقي الزرع. وإذا هم قد خبروا حقيقتي قبلاً فستراهم ينكسون رؤوسهم ويرتدون الى أعقابهم مرتابين، ولن يحد أحد منهم فيَّ عن اثنتين: إما صديق صدوق أو عدو غضوب جهول. والناس من طبعهم الشك والريبة حتى يستيقنوا.
الأول إذا ما توسط أعدائي اطمأنوا له فأصبح عيني. أما الثاني فهو حبلي وجسر بين العدو والصديق يعبره الناس إليّ واهمين وغير موقنين الى أين يحملهم وطؤ أقدامهم. أما الثالث فهو سيفي، يبطش ويفتك في الناس فصاروا به بين متودد محب ومتوجس خائف.. أما الرابع فسيعدل بين الناس حتى يستلب نفوسهم ويسوس أمورهم من بعدي، وأنا العادل الرحيم.
وإذا بالأصوات قد اختلطت على الناس وحملتهم من لظى الى لظى، فسنكون قد لعبنا لعبتنا بدراية وحنكة.
/
أتضحك بسرك وجهرك متعجباً من هذا القادم الذي يحدثك عن أصوات مبهمة أو لعبة منكرة ما سمعنا بها في آبائنا الأولين؟ حسناً، سأعترف لك بشيء آخر. يا صاحبي لطالما هويت التمثيل في شبابي وحلمت باعتلاء تلك الخشبة السحرية التي لا زالت تأسر لبي كلما وقع عليها ناظري.
ما المانع أن نمتطي صهوة هذا الجواد الأصيل لنهيم في غياهب الخيال:
(الشخوص كلها ستمثل بصوت واحد، هو نفسه السارد للعبة)
السارد صائحا بأعلى صوته: فلتفتح الستارة..
(جلبة وصياح في أنحاء المسرح، بعضهم يركض جيئة وذهاباً في حالة من الخوف والهلع وقد عمت الفوضى)
يوليوس قيصر يعتلي المنصة مخاطباً الشعب: يا عبيدي أنا ربكم الأعلى فأطيعوني لأهديكم الى سبيل الرشاد بعد أن طردت الأعداء وعلقت رؤوسهم على باب مدينتي العظيمة فأمنتم ونمتم في عدلي فكلوا واشربوا وقرّوا العيون.
الشعب (أصوات): يحيا يوليوس العظيم، يحيا يحيا..
عبد الله بن أبي مخاطبا قيصر وقد توسط الناس: نفوسنا لا تهش الى مباهجك أيها الملك، ولا نأمن لملك قصره قد فاض بالأبيض والأصفر ويتخذ من نفسه رباً.. إليّ إليّ أيها الناس.
الشعب (أصوات): يا ناس دعونا من قيصر وليكن إبن أبي حليفنا فهو منا وفينا.
شكسبير متوسطاً الجمع منشداً: عدم التوافق بين الأصوات المتناغمة جيد وهو لا يؤذي سمعك بتزاوج وحداته وتنوعه. ولا بأس إذا عنّفك برقة.. إفصل بين الأجزاء لكن ابقها مجموعة حتى يكتمل المشهد.
(الشعب بكل أطيافه بدا طرباً منتشياً)
الحجاج متوعداً: أرى رؤوساً كثيرة مزدحمة على بابي وشباكي وأفواهاً شرهة تقضم التفاح، ودماً قد سال عبيطاً (ينحني تحية لقيصر)، نفسي فداء المليك.
أصوات: أيها الناس كلا الرجلين في الحق سواء لا تكن نياتكم سيئة ولتصفحوا. فما فات قد مات وقيصر مليككم المخلص وإبن أبي ناصح مطاع.
وفجاءة تخفت الأصوات وتهمس أخرى: لا تجاهروا حتى لا يصيبكم عذاب الحجاج، وقد ظفر من لزم الحائط.
شرحبيل بن حسنة (متسربلا المسوح كالزهاد) مخاطبا الشعب: أحبة قلبي أنتم، يا أيها الجمع احتكموا لي فإني لكم من الناصحين وها هي الدنيا قد أدبرت لرحيل وحان حينها.. لنا ديننا ونصيب من دنيا..
(قرقعة وأصوات وهياج بين الناس وسباب وبعضهم يشهر الخناجر والعصي لتبدأ معركة صغيرة في جانب المسرح)
أصوات: احجروا عليهم في كهف أو مغارة، فها هي الفتنة قد بانت ولاح حفيفها.. دعوا العابد ابن حسنة ينجيكم بالحقيقة.
(هرج ومرج يسري بين الناس وقد مال بعض الى هذا وبعض الى ذاك)
أصوات: اقتلوا صاحب الصوت ذاك فهو الذي أشعل الفتنة..
(يُحمل صوتي الى المقصلة ليختفي ظلي بعدها لاجئا الى الظلال البعيدة).
Leave a Reply