البراغماتية-الواقعية
تدفعنا الكثير من العوامل لتناول هذا الموضوع، خاصة بسبب ما يعتمل داخل الساحة العربية والدولية من صراعات وتقلبات تكاد تعصف بكل المفاهيم والأفكار والأيديولوجيات لتكرس واقعاً متقلباً متذبذباً، فما يحدث في المنطقة العربية عبارة عن مختبر للتجارب يجمع فيه المتضاد ويقسم فيه المتجانس، والغاية هي الوصول الى إحداث انقلابات في المفاهيم والسياسات، لكن الى الآن لم يفرز المطبخ-المختبر إلاّ «حالة» لم تزل تصارع بكل الوسائل لكي تتحول الى واقع، لكنها لم تتحق بعد، ومازال أصحابها يعملون بكل الوسائل على تكريسها تحت مصطلح البراغماتية والواقعية.
قوى سياسية كثيرة لطالما رفعت شعارات تقدمية ووجدت دعماً شعبياً ومثلت أملا في تغيير واقع المنطقة وشعوبها الى غد أفضل، لكن عند أول امتحان لها مع الواقع أدارت ظهرها لمبادئها لتزيد الواقع العربي المهترىء مرارة وتشرذماً.
إنّ بعض ممن يسعون لتأسيس واقع سياسي عربي جديد يحاولون أن يقنعوا الجميع أن قاعدة السياسة هي المصلحة لا المبدأ. والمصلحة قد تكون مصلحة أفراد أو أحزاب وجماعات، وقد استطاع أصحاب هذه الرؤية أن يصطادوا أحزابا وتيارات لتصطف معهم ووراءهم. فهل فعلا أنّ زمن المبدأ قد مات، وأن الأحزاب التي اتخذت مواقع جديدة لها كانت أكثر واقعية من القوى التي مازالت تتشبث بخياراتها والتي ينظر اليها الآن على أنها أحزاب محنطة من خارج التاريخ؟
من المفترض أن لكل حزب أو تيار أو حركة سياسية خلفية فكرية يمكن أن نسميها عقيدة سياسية أو أيديولوجيا أو بالحد الأدنى رؤية أو مجموعة أفكار تربط بين مجموعة من الأفراد فتوحد منطلقاتهم وتخلق أرضية للعمل المشترك بغية تحقيق الأهداف المشتركة.
والأهداف تلك هي التي عادة ما ترفعها الأحزاب أو الجماعات كشعارات، وبها تستقطب الأفراد الذين يوافقونها في مبادئها فيتحولون الى قواعد لها تشد أزرها وتحركها ضد الأحزاب المخالفة لاسيما في الاستحقاقات الإنتخابية. والايديولوجيا، كما يعرفها فقيه السياسة ويلارد مولنز، هي «أن تكون لها سلطة على الإدراك قادرة على توجيه عمليات التقييم لدى المرء، والتوجيه تجاه العمل، وأن تكون متماسكة منطقياً»، فهل في مفاهيم الواقعيين الجدد شيء مما تقدم؟.
الحابل والنابل: مرحلة فرز القوى
لقد وفرت الأحداث التي تمر بها المنطقة العربية في الفترة الأخيرة فرصة لشعوبها لتقوم بعملية فرز القوى السياسية التي كانت لعقود تحرك قواعدها وفقاً لشعارات وعقائد سياسية مخصوصة. وهذه التحولات في هذه المرحلة الجديدة كشفت الأحزاب التي تخدم فعلاً المجتمع وتلك التي تخدم الأفراد أو القوى المناهضة لمصالح الشعوب. ويبدو لافتاً للنظر اصطفاف التيارات ذات الخلفية الدينية وراء تيار العائلات المالكة ذات المرجعية العشائرية والقبلية والتي تقودها المنظومة الخليجية. فما الذي جعل تيارات كانت تدعو الى مبدأ الشورى ووحدة الأمة الإسلامية لتتبع نظماً شمولية مطلقة تقوم مصالحها على استمرار التجزئة واستمرار الكيانات «المستقلة» لأنها تكرس مصلحتها عبر التقسيم وأقصى ما تبتغيه من وحدة هي وحدة العائلة الحاكمة؟ وما الذي يجعل قوى ليبيرالية تؤمن بتعدد الأحزاب وانتخاب البرلمانات تصطف وراء تيار لا يؤمن بالتمثيل الشعبي القائم على الإنتخاب وتداول السلطة؟ وما الذي يجمع هؤلاء بقوى يسارية كانت الى وقت قريب تعتبر النظم العشائرية والدينية نظما قروسطية واقطاعية متخلفة ومعادية للحقوق الاجتماعية والمدنية والليبيرالية والديمقراطية؟ ما الذي جمع كل هذه الفسيفاء السياسية المتناقضة في خلفياتها الإيديولوجية وفي أهدافها في وعاء واحد؟ فعلا، «ما الذي جمّع الشامي على المغربي»؟ إنها بلا شك «المصلحة» التي تُجمّل فيقال لها «الواقعية» أو «البراغماتية». فما الذي سيتحقق لنا وما الذي سنخسره نتيجة قيادة زعامات الواقعية والبراغماتية الجدد لواقعنا.
الأخلاقي والسياسي: ملائكة وشياطين
في ظل العتمة التي تسود الواقع العربي تتعالى أصوات الموجة الجديدة من «الواقعيين» أو «البراغماتيين» لتحاول أن تبرر ما يحصل من فساد وتلوّنه لتجعله القاعدة بدل أن يكون نشازاً. فالمعادلة أصبحت أن كل ما هو سياسي هو مصلحي وكل ما هو مصلحي لا يخضع لمعايير الاخلاق، وهي قواعد يتم العمل على تكريسها عبر وسائل عديدة أبرزها:
– المال: تُغدق الأموال على زعامات وشخصيات سياسية واجتماعية ودينية حتى توافق على مايجري في واقع الناس من قلب للمفاهيم وتقوم بدورها بشراء ذمم القواعد الشعبية.
– الإعلام: وظفت بعض الأحزاب كأبواق دعاية ضد كل من يصمد من الأحزاب أو التيارات أو الزعامات ضد «موجة الواقعية الجديدة».
– القوة العسكرية: فرض الأمر الواقع بقوة السلاح.
– الدعاية الدينية: استُقطب بعض رجال الدين ليعملوا على استغلال ما لهم من تقدير ونفوذ لدى العامة ليحاولوا تبرير ما يحدث وخاصة العمل على شيطنة الأحزاب والشخصيات المعارضة وتنزيه «الواقعيين» وتقديمهم في صورة ملائكة.
– قلب الحقائق: يصبح المدافع عن كرامته ووطنه إرهابياً بينما يطلق على المتطرف لقب ثوري.
العرب الكمبارس: مصادرة الوعي
يدخل التأسيس لمرحلة جديدة بمفاهيم جديدة ضمن مشروع كبير يعمل على مصادرة الوعي وبث وعي جديد تُحدد فيه الأولويات والإهتمامات التي يجب على القوى السياسية، إن أرادت أن تبقى فاعلة في المنطقة العربية ان تلتزم بها، سواء القوى في السلطة أو في المعارضة.
والوعي الجديد هذا، الذي يُعمل على ترسيخه، هو محاولة لمحو الضمير الجمعي والذاكرة العربية بكل ما تختزنه من معلومات عن الهوية والانتماء والتاريخ والسياسة والوطنية والتقدمية وتحديد الأعداء الحقيقيين لمصالح شعوب المنطقة. و«العقل العربي الجديد» الذي يجري تعميمه هو عقل بلا ذاكرة ولا تاريخ يؤمن بأن كل ما تقدم ذكره من قيم هي أمور تجاوزها الزمن وأن الأصلح للجميع ولمستقبلهم هو الاعتراف بـ«الواقعية الجديدة» التي يقوم فيها الأفراد بالتسليم بالأمر الواقع ثم العمل على انتهاز الفرصة السانحة لخدمة المصالح الشخصية، وكل من لا ينخرط في هذا الواقع فهو أحمق يجذف ضد التيار. أما العدو فلا داعي للبحث عنه بعيداً عن محيطك وجيرانك، وقد يكون، حسب المفاهيم الواقعية أخاك أو ابن عمك، فهما الأقرب لمنافستك على المصلحة، فاحترس منهما.
هذه هي الإيديولوجية الجديدة التي تضع أولوياتها وأجنداتها قوى متنفذة وفاعلة وليس على العرب الذين يظهر بعضهم على أنهم أصحاب المشروع وقادته إلا الاضطلاع بدور البطولة الوهمية لأنهم في واقع الامر ليسوا إلا «كمبارس».
ويبدو أن دور «الكمبارس» الذي يضطلع به بعض «أولي الأمر» يُراد له ان يكون معمماً على شعوب المنطقة التي ستحرم بذلك من حق تقرير المصير، أو حتى الحديث عن المصير.
تتكون كلمة إيديولوجيا من كلمتين، «ايديا» وتعني الفكرة و«لجوس» وتعني المنطق، فأي فكرة هدامة هذه التي يراد ترسيخها في واقع العرب وأي منطق في ما يحدث في المنطقة من استلاب للوعي وقلب للمفاهيم؟
Leave a Reply