شرطة المدينة تعاني من نقص التمويل واستشراء الجريمة: المنازل المهجورة تحولت لأوكار.. والحقول لمقابر
مساعٍ ومبادرات طموحة من القطاعين العام والخاص للنهضة بديترويت.. والأمن يبقى الهاجس الأول
ديترويت التي كانت في الماضي الغابر جوهرة الولايات المتحدة ورمزاً لقوتها وازدهارها تحاول اليوم النهوض من جديد بعد عقود طويلة من التدهور الاقتصادي والاجتماعي وتفشي الجريمة والمخدرات في بؤر كثيرة تغطي معظم أنحاء المدينة.
.. خلال العقود الأربعة الأخيرة تدهورت المدينة بشكل متسارع، فمع حلول العام ١٩٥٠ بدأ الأميركيون البيض يتركون المدينة ويتوجهون إلى الضواحي المتنامية، لكن أواخر العام ١٩٦٧ كانت الهجرة الأكبر للبيض بعد أعمال شغب وصدامات عنصرية دموية. وزاد طين ديترويت بلّة تدهور صناعة السيارات على مراحل، وصولا الى العام ١٩٩٢ فقد شهدت المدينة جولة جديدة من العنف تم تطويقها بعد أن هدد الرئيس جورج بوش الأب حينها بدفع الجيش الأميركي الى أحياء المدينة في حال لم تتوقف الاحتجاجات وأعمال العنف وفي العفد الأول الأول من الألفية الحالية استمر النزيف السكاني حتى أصبح عدد سكان المدينة ٧١٣ ألف نسمة حسب إحصاء ٢٠١٠.
هذه المفاصل من تاريخ ديترويت أوصلت بها للحالة المتردية التي تعيشها اليوم من انحدار في الأمن وقيمة العقارات ومستوى الخدمات، فهُجرت البيوت حياً بعد آخر ومتجراً بعد متجر، سُلب الكثير ونُهب الكثير وأحرق الكثير لتصبح ديترويت اليوم شبح المدينة التي ذاع صيتها في العالم منذ مطلع القرن الماضي.
لكن اليوم هناك مساع حثيثة للنهوض بالمدينة، ويظهر ذلك جلياً بكمّ المبادرات والخطوات التي أقدم عليها القطاعان العام والخاص، ومن ضمن هذه المساعي مثلاً: هدم المنازل المهجورة، وفرض خطط أمنية في مناطق محددة وتنفيذ مداهمات عشوائية لأوكار الجريمة، وقيام شركات خاصة عديدة بنقل الوظائف الى وسط المدينة، وتمويل قطاع النقل من الحكومة الفدرالية، وتدخل الولاية لإنقاذ المدينة من الإفلاس، وإعادة تأهيل مدارس المدينة العامة، ومشروع بناء جسر ثان يصل وسط المدينة بويندسور الكندية.. وغير ذلك من مشاريع ومبادرات. إلا أن هذا كله لم يقنع الكثيرين بأن «مدينة السيارات» قادرة على النهوض مجدداً بسبب المعضلات المستعصية والكثيرة التي تعاني منها. وخاصة فقدانها لأهم شريان إقتصادي تأسست عليه.
فبرأي هؤلاء كل ما سلف ذكره لن يقنع أحداً بالانتقال للعيش في ديترويت، فالشوارع مظلمة والجريمة متفشية.. والمخدرات بمتناول الجميع.. عديد الشرطة يتقلص وكذلك الإطفاء بسبب الأزمة المالية، وحوالي ٤٠ بالمئة من المدينة مناطق مهجورة، والفساد له حصة من الحكومات البلدية المتعاقبة، أضف الى ذلك القاعدة العنصرية الأميركية التي عرفتها البلاد خلال القرن الماضي: «أنه كلما ازداد عدد السكان من الأفارقة الأميركيين كلما تراجع عدد السكان البيض». و«ديترويت هي عاصمة الأميركيين السود ولن يتخلوا عنها بسهولة»، وهو شعار أطلقه سكان المدينة إبان الجدل الأخير حول تعيين مدير طوارئ من قبل لانسنغ لإدارة الشؤون المالية للمدينة وإنقاذها من الإفلاس بعد تجريد رئيس البلدية وأعضاء المجلس البلدي من صلاحياتهم وهو ما اعتبره سكان المدينة محاولة لفرض «وصاية الرجل الأبيض» عليهم وعدم الاعتراف بالمسؤولين الذين يتم انتخابهم من الأفارقة الأميركيين. انتهى السجال حينها بحل وسطي عبر اتفاق تسوية يقضي بتعيين مجلس مشترك يختار أعضاءه الجانبان، لكن السجال حول نهوض المدينة لا يزال يدور بين متفائل ومتشائم.
المنازل المهجورة تحولت لأوكار جريمة
.. والأراضي المهجورة لمقابر
ديترويت المدينة وحدها كانت تحتضن حوالي مليوني شخص أواسط القرن الماضي، أما اليوم فهي بالكاد تضم ٧٥٠ ألف نسمة.. وهذا ما ينعكس بوضوح في النسبة المرتفعة من المنازل المهجورة في المدينة والتي تحوّل بعضها الى هياكل بعد حرقها وأخرى الى أوكار للجريمة وتجار ومتعاطي المخدرات وغير ذلك من الأنشطة الجرمية.
مؤخراً أطلق حاكم الولاية ريك سنايدر مبادرة لهدم وجرف الآلاف من هذه المنازل على نفقة الولاية، بسبب اعتبارها عائقا أساسيا أمام نهضة المدينة، وذلك بعد أن فشلت بلدية ديترويت في تمويل هذا البرنامج بسبب الأزمة المالية الخانقة التي تمر بها.
ولكن المنازل لا تشكل سوى نصف المشكلة، فبدون مشاريع تنمية وبناء ستتحول المناطق المطهرة من المنازل المهجورة والموبوءة الى مجرد مناطق شاسعة ومعزولة تغمرها النفايات وستنضم بذلك الى مناطق مشابهة تحولت، بسبب بعدها عن العيون، الى مقابر مفتوحة يقصدها القتلة للتخلص من جثث قتلاهم التي يلقونها أو يدفنوها وسط أكوام الخردة والنفايات المتراكمة هناك منذ سنوات.
فمنذ شهرين تقريباً تم اكتشاف جثتين عاريتين في واحدة من تلك المناطق. وتبين للشرطة أن الضحيتين هما مراهقان تم قتلهما بالرصاص قبل التخلص من جثتيهما في باحة كبيرة تتوسط بيوتاً مهجورةً ومدمرة والتي اصبحت قفارا لا يأتيها أحد، وحتى الشرطة لا تُسيّر فيها دوريات منتظمة إلا فيما ندر.
وتشير إحصائية رسمية أنه في العام الأخير انتشلت شرطة ديترويت ما لا يقل عن عشر جثث وسط اعتراف السلطات الأمنية بعجزها عن القيام بما يمنع هذه الظاهرة الإجرامية.
وفي تقرير بهذا الخصوص أعدته شبكة «سي بي أس» في تموز (يوليو) الماضي، قال الضابط في شرطة ديترويت، جون غارنر، إن هناك صعوبة بالغة في كشف الجناة أو التعرف على جثث القتلى المقبورة أو المرمية في المناطق المهجورة بسبب مرور وقت طويل قبل اكتشافها مما يؤدي الى تحلل الجثث في كثير من الأحيان.
سجال
وعادة ما تُخفى الجثث في الأزقة والباحات التي تعلو فيها الأعشاب، إضافة الى المنازل والكراجات المحروقة والمدمرة وحتى أحيانا تُرمى الجثث في قنوات مجاري المياه في كافة المناطق المهجورة في ديترويت التي باتت تجتذب المجرمين، من المدينة وخارجها، ممن يرغبرن بالتخلص من جثث الضحايا. فحسب الشرطة ربما سبع من الجثث التي تم العثور عليها تعود لجرائم ارتكبت خارج ديترويت لكنها رميت في مناطق مهجورة من المدينة علّها لا يتم اكتشافها والتعرف على المجرمين.
«إذا كانت المدينة تريد اجتذاب السكان ورجال الأعمال فعليها أن تمنع اجتذاب المجرمين أولا»، يقول رجل أعمال عربي أميركي يدرس إمكانية شراء أبنية وأراض مهجورة في محيط مصب الجسر الذي ينوي سنايدر إنشاءه بين ديترويت وويندسور. ويضيف «إذا أقيم الجسر وفرض نوع من الأمان في مناطق محددة.. سيكون شراء الأراضي في تلك المنطقة استثمار العمر».
ولكن الاستثمار في ديترويت، حسب اقتصادي عربي أميركي يعمل في شركة مالية ضخمة في نيويورك، أشبه بلعبة «الروليت» في الكازينو، «صحيح أن جائزتها مغرية ولكن حظوظها محدودة.. وصحيح أيضاً أن الاستثمار لا بد أن يحمل مخاطر لكنه لا يجب أن يكون كلعبة قمار».
الأمن أولاً.. وتمويل الشرطة غير كاف
ورغم أن الكثير من الخطوات الإيجابية قد طرأت على ساحة ديترويت ولاسيما في وسطها التجاري إلا أن الهاجس الأمني يظل يؤرق المستثمرين خاصة بعد قرارات أخيرة قضت بتخفيض أجور العناصر والعاملين في دائرة الشرطة.
ورغم أن هناك حاجة إلى وجود عدد أكبر من عناصر الشرطة في أنحاء المدينة الى جانب عناصر شرطة الولاية الذين يقومون مدة بدوريات في شوارع المدينة، ولكن بلدية ديترويت خفضت ميزانية الشرطة بنسبة 10 بالمئة وحاولت تعويض ذلك بجعل دورية الشرطي ١٢ ساعة يومياً وهو ما أثار غضباً عارماً في صفوفهم ودفعهم الى التظاهر واستصدار حكم من القضاء يلغي هذا القرار (تفاصيل ص ٨).
ويشير غارنر أنه عندما التحق بالخدمة في الشرطة منذ 13 سنة كان يشارك في دوريات تغطي مساحة 3,6 ميلاً مربعاً ويتبادل الدوريات مع عناصر آخرين مرة واحدة كل 20 دقيقة، لكن الآن هو مطالب أن يغطي 22 ميلاً مربعاً، ويتبادل الدوريات مع عناصر شرطة آخرين مرة واحدة ربما كل ساعتين. «إذا كنا نعرف هذا، فالمجرمون يعرفون ذلك أيضاً»، يقول غارنر الذي أكد أن قلة دوريات الشرطة وبطء استجابتها لنداءات استغاثة المواطنين تجعل من الصعب كشف شخص وهو يقوم بطمر أو إخفاء جثة.
ويقول دانيال كينيدي المختص في الطب الشرعي الجنائي في ميشيغن أنّ «قبل عقود كان الناس يذهبون الى المناطق النائية لدفن الجثث لكن الآن لدينا مناطق نائية في قلب المناطق الحضرية».
ولكن مسؤولين آخرين يؤكدون أن دوائر أمنية أخرى مثل شرطة الولاية وشرطة شريف مقاطعة وين ومكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) باتوا أكثر انخراطاً في مواجهة الجريمة في المدينة وهو سيف ذو حدين.
فمن جهة، هو يساعد شرطة المدينة في بسط الأمن لاسيما في المداهمات والإيقاع بالشبكات الجرمية الكبيرة، إلا أن ما يتوجس منه البعض هو تكرار سيناريو ١٩٦٧ والذي اندلعت أحداثه بسبب «اضطهاد الشرطي الأبيض للمواطن الأسود في ديترويت».
تفاؤل
سمعة ديترويت كمدينة ينتشر فيها العنف كواحدة من المدن الأعلى ترتيباً في معدلات الجريمة في العالم وهذه المعطيات تعطل فرص نهضة المدينة، لكن الكثيرين لا زالوا يؤمنون بعودة «مدينة السيارات»، ومن بين هؤلاء رجل الأعمال اليهودي الأميركي دان غيلبرت الذي قام بنقل عدة شركات يملكها بمن فيها من آلاف الموظفين الى قلب المدينة، كما رمم وأعاد تأهيل مبان سكنية اشتراها على شارع وودورد وحفز موظفيه على السكن فيها. وإضافة الى ذلك بعمل غيلبرت مع رجال أعمال آخرين على تعزيز الأمن ووسائل النقل في منطقة قلب ديترويت بالتعاون مع السلطات المحلية.
ومشاريع غيلبرت تأتي بالتوازي مع خطط أمنية تقوم بها شرطة مقاطعة وين تستهدف إحلال الأمن في مناطق محددة هي وسط المدينة، ومنطقة «جامعة وين ستايت» (ميد تاون)، والواجهة النهرية.
كما يعول السكان والمستثمرون في ديترويت على إنشاء الجسر الثاني الذي سيعزز حركة التجارة مع كندا ويضخ مئات ملايين الدولارات وآلاف الوظائف في قلب المدينة الذي سيستقبل ملايين السيارات القادمة والذاهبة الى كندا سنوياً، في حركة اقتصادية ستجذب استثمارات هائلة في حال إقرار بناء الجسر المعروض على الاستفتاء في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
ومن جهة أخرى، يقول رئيس البلدية دايف بينغ إنه سعيد بأن الحاكم سنايدر قد التزم بتخصيص 10 ملايين دولار إضافية لهدم بقية، المباني المهجورة والتي تحولت الى أماكن خطيرة، ولكنه طالب بمزيد من التمويل للشرطة، «مما سيمكننا من القدرة على السيطرة على كثير من المشاكل الأمنية وكبح تفشي الجريمة لجذب الاستثمارات».
وبدوره اقترح رئيس شرطة ديترويت رالف غودبي على مجلس البلدية مشروع قانون يقضي برفع الضريبة العقارية في المدينة عبر استفتاء خاص في تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو ما أثنى عليه رجال أعمال عرب أميركيين خلال اجتماع مع السلطات الأمنية عقد الشهر الماضي في ديربورن، وذلك من أجل توفير التمويل الكافي لدائرة الشرطة كي تتولى مهامها في مواجهة الجريمة التي تهدد الكثير من المصالح التجارية الصغيرة (محطات وقود ومتاجر) في ديترويت والتي يمتك معظمها رجال أعمال عرب وكلدان أميركيون، وتمنع المستثمرين من ضخ أموالهم في المدينة.
Leave a Reply