الذكريات غزيرة وصعبة، ولم تتوقف حتى بعد أن أهيل التراب، قبل أربعين يوماً، في تلك الروضة الضيقة المغطاة بالورود والرياحين وحبق برعشيت. لكن لا مفر من التسليم لمشيئة الله، إن ذلك الضريح سيشكل مسكناً نهائياً لجسد طالما امتلأ بالحياة وروح امتهنت المحبة والعطاء والكرم.
مخيفة هي العودة بالذاكرة، الى ذلك المكان، إلى برعشيت ومدرستها الأولى، إلى الصور الأولى والكلمات الأولى والتوجيهات الأولى والتي كان الظن أنها سقطت في النسيان، لكن من ينسى الحاجة «أم جهاد» ودكانها الصغير الأثير قرب المدرسة، وكفاحها المضني من أجل حياة مقبولة لعائلتها الكبيرة. ورغم هموم الحياة، وما أثقلها حينذاك، لم يكن يغادرها مرحها وقفشاتها الضاحكة مع الأولاد الصغار والطلاب الأكبر سناً وحتى الأساتذة وهي تطعمهم خبزها الطازج المعجون والمرقوق بيديها الكريمتين الطاهرتين وتسقيهم من قهوتها التي لا تُنسى.
لم تكن الحاجة «أم جهاد» ماضياً في حاضر الكثيرين ممن عرفوها وعاشوا معها. في المهجر كانت التجربة الناطقة لنا بوجهها البشوش تعلوه إبتسامة الظرف والوقار. نجلس إليها ونتعلم منها الحكمة ونستمد من كلامها الصبر والإحتمال، في جو لا يخلو من التنكيت والسخرية من تعب الغربة.
سألتها في إحدى المرات «بتتصوري حدن منا يجيب عشرة أولاد ويربيهم مثلما فعلت أنت؟» كنت أتوقع منها أن تتحامل على جيل أمهات هذه الأيام وتكيل لهن التهم واللوم. وبكل محبة قالت لي «زمان كانت تربية الأولاد أسهل في الضيعة وعلى الطبيعة، ما كان في مستشفيات وتطعيمات وكراسي سيارات».
لم تكن بداية سنين الغربة سهلة ومريحة هنا في ديربورن، لكن طاقة الاحتمال والرغبة في الحياة التي عاشتها الحاجة «أم جهاد» معاركةً وصابرةً ومؤمنة بالله وشريكةً للزوج الذي ظلً دائماً أقوى من أسباب الشقاء في دنيا الإغتراب، جعلتها دوماً تزرع في أولادها العشرة، بذرة العزيمة والأمل وكانت دائماً تحيطهم جميعاً بحنان يعصمهم من أخطاء الخلافات ويحميهم من شرر الإنقسامات، ومثل كل الأمهات الصالحات، كانت الحاجة «أم جهاد» خيمة أمان لأولادها وبناتها حين يلجأون إليها فتدرك هموماً في عيونهم، فتمسحها بنظراتها الحانية فيستعيدون طمأنينتهم ويكملون مسيرتهم في علاقاتهم المميّزة والسويّة فيما بينهم ومع الناس، مدركين أن ذلك أغلبه ثمرة بركتها وصلواتها وأدعيتها الصالحة.
أبناؤها يعلمون جيداً أن أمهم تركت لهم الكثير من المحبّين والأصدقاء في أميركا وفي لبنان يشاركونهم الحزن بخسارتها، وإن كان ذلك لا يعوّض الأم الغالية التي بفقدانها رُفعت الخيمة التي كانت تظللهم بحنانها وتضمهم بجوانحها.
قبل رحيلها، ولبعض المقربين فقط، كانت تشكو اعتلال صحتها، دون يأس من احتمال التغلب على المرض، وبعد مقاومة حتى الرمق الأخير، ودّعت الحاجة «أم جهاد» زوجها وأبناءها وبناتها وقبيلة الأحفاد والصديقات والأصدقاء والجيران في ديربورن. وعند ساعة الرحيل، إرتحلت «ست الستات» و«أخت الرجال» في السفر الأخير إلى بارئها يملؤها الشعور بأنها قد أتمت ما عليها وعادت إلى ربها راضية مرضية.. رحم الله الحاجة أم جهاد فرحات وحفظ الله ذريتها الصالحة.
Leave a Reply