الخامسة فجراً، توقظني رائحة حريق تتسلل إلى بيت وسط اللاذقية. حريق غابات كسب والفرلق التي صارت غاباتها البديعة مناطق جرداء محروقة، صار للفجر رائحة حريق وللوطن رائحة حريق وللقلوب التي كانت مفعمة بالأمل رائحة حريق، ما يشكل الحياة في سوريا غير الكارثة والدمار، حتى منظر الناس في الشارع صار غريباً، السوري يهيم على وجهه مشرداً يائساً مدمّر الروح. حياة السوريين صارت تنويعات للألم لدرجة أفكر ان يقام مهرجان للألم في سوريا، سيجد الفنانون التشكيليون مواضيع ومشاهد لا تنضب من أشكال المعاناة المروعة التي تفوق الخيال والوصف. يمكنني أن أحدثكم عن المرأة الريفية الفقيرة التي تعمل في تنظيف البيوت وشطف درج البنايات لا تزال تعمل وهي في الستين من عمرها ولديها مرض السكري وخضعت منذ مدة لعملية «مياه زرقاء» في عينيها، وهي كل صباح تنتظر الباص المهترئ يقلها من قريتها إلى اللاذقية لتعمل وتعود عصراً إلى بيتها حطام امرأة، البارحة أُغمي عليها وهي تعمل عندي. هوى قلبي، ولكن تمكنت من إسعافها، خرجت عن صمتها الذي تحتمي داخله عادة، وقالت لي بأن اثنين من أولادها الذين أنهوا خدمة الجندية قد سحبا «احتياط» إلى حلب وبأنها منذ شهر لم تسمع عنهما شيــئاً. فكرت كيف تستطيع تلك المرأة ذات القلب المحروق من الألم كغــابات كــسب والفــرلق أن تمسح البلاط والزجاج! أن تمشي حتــى، أن تنتظر الباص!
وطن ينجرف إلى الهاوية على مرأى العالم كله ومع ذلك أكثر ما يروعني ويخيفني كلام الناس، ثرثرتهم اليومية العفوية التي تعكس حقيقة مشاعرهم وأفكارهم، ما يروعني حقاً قناعة معظم الناس أن القادم أعظم! انتظارهم لمزيد من الكوارث والدم! لم يعد من وجود لما يسمى المستقبل، صرنا نعيش الحاضر الذي يعني القتل المتواصل والدمار المتواصل! صار الموت ممزوجاً مع وجباتنا اليومية. يشعر كل مواطن سوري أن يداً من حديد تقبض على رقبته وتجرّه رغماً عنه إلى حيث تريد الأطراف المتصارعة. اسمع كلام الناس في اللاذقية واسمع وأشارك في حوارات المثقفين هنا، الكل يتساءل: متى يحين دور اللاذقية والساحل السوري في الانفجار، لا يترقب الناس أن تهدأ الأوضاع بل يترقبون المزيد من الحرائق والدمار والدماء كما لو أن لعنة لا يمكن ردها حلت عليهم، ولا يعرفون أي ذنب ارتكبوه لتحلّ عليهم هذه اللعنة… أكثر ما يخيفني أن الإنسان السوري صار يستجدي الحياة، وصارت أحاديث من نوع: إلى أين سننزح؟ هي أكثر المواضيع تداولاً بين الناس. حضرت منذ أيام جدلاً حامياً بين أصدقاء كل منهم يقترح مكاناً وبلداً للنزوح. البعض يفضل لبنان والبعض تركيا، لكن من ربح الجولة ذلك الذي برهن للجميع أن أفضل مكان لنزوح السوريين هو قبرص التركية. صرخ أحد الحاضرين: ومن لا يملك القدرة على النزوح ماذا يفعل؟ والجواب بسيط وواضح: يموت فقعاً بسكتة دماغية أو قلبية أو برصاصة أو بقذيفة أو بانهيار منزله فوقه! كيف يمكن أن نصف وطناً وشعباً صار فعل الموت فيه أقوى من فعل الحياة! وصار الناس بدل انتظار الفرج والسلام واستقرار الأوضاع ينتظرون المزيد من المجازر والدمار والموت. وأنا نفسي لا أعرف كيف أحول هذا الألم الهائل في روحي إلى بضع كلمات كي أشهد ولو قليلاً على البلاد والعباد، كي اقدم اعتذاراً للعديد من أصدقائي الأطباء الذين نزحوا.
صديقتي من القصير قرب حمص طبيبة عيون سُوّي بيتها وعيادتها بالأرض فنزحت إلى جرمانا في دمشق، لكن الحريق سرعان ما امتد إلى جرمانا فنزحت من جديد إلى اللاذقية.
قالت لي وهي تختنق بالدمع: لم أعد أتعرّف إلى نفسي! من أنا! هل أنا الطبيبة التي عملت في عيادتها في القصير لأكثر من عشرين عاماً، أم أنا تلك المرأة المحطمة كمنزلها والمشردة؟ أشعر ان عليّ ان اعتذر كذلك لصديقة أخرى طبيبة مخبرية وزوجها طبيب أيضاً نزحا إلى بيروت مع أولادهما ويحاولان الحصول على عمل. ولما سألت صديقتي كيف تقضين أوقاتك في بيروت؟ قالت أكثر جهد ووقت أبذله في الحفاظ على نفسي من أجل أولادي على الأقل.
حدثتني عن الممرضة التي كانت تعمل لديها في مخبرها في حلب. ممرضة شابة من قرية قرب ادلب لدى أهلها بيت في ادلب أجروه لناس وهم استأجروا بيتاً في حلب، والبيتان في ادلب وحلب سوّياً بالأرض وتحوّلا حطاماً مما اضطر أسرة الممرضة ان تسكن في حديقة عامة في حلب تفترش الأرض وتلتحف السماء! أحياناً اتساءل إن كان القراء يصدقون تلك القصص التي أحكيها؟ لأن هناك إمعاناً في الألم لدرجة نشعر أن ما نعيشه ونعانيه هو أقرب إلى مسرح اللامعقول منه إلى الحياة الطبيعية. وأظنّ أن كل ما اكتبه وكل ما تقوله المقالات والتحليلات والمؤتمرات في الشأن السوري لا يعادل شيئاً مما قاله لي طفل في السابعة من عمره كان يحمل بارودة من بلاستيك ويغتال كل المارة في الشارع بها مقلداً أبطال الموت الذين يراهم في الشاشة، ولما سألته: لماذا تحمل بندقية؟ لم يتركني أكمل فقال لي بحماسة يائسة: أريد ان أقتل كل السوريين، كلهم كلهم! فكرت أي تشويه فظيع أصاب روح هذا الطفل. لكن حين أكمل كلامه قائلاً: كي لا يحزن أحد على أحد. فحين يموت الجميع لا يحزن أحد على أحد.
عرفت لاحقاً أن ثلاثة شبان من أقربائه قُتلوا. لا يهم من هم وإلى أية جهة ينتمون.. المهم انهم ماتوا وبأن والديه كانا يتنقلان من بيت إلى بيت لتقديم التعازي، ولأن النشاط الاجتماعي الوحيد المتبقي في سوريا هو تقديم التعازي. طفل وجد طريقة سريالية عفوية كي ينجو بروحه من ألم طاحن يسحق براعم الفرح والبراءة والطفولة في نفسه.. طفل وجد نفسه حائراً ومرتبكاً بآلام روحه التي يعجز عن استيعابها وعن وقاية نفسه من عالم الكبار القاسي والوحشي. طفل لم يجد من وسيلة للهروب من الموت والحزن سوى أن يموت الجميع، كل السوريين، كلهم (كما قال) لعله يعتقد أنه حين يموت الجميع قد يكون ذلك بداية لحياة جديدة حيث يرمي البندقية ويركب مرجوحة الأحلام.
ثلاثة فناجين من القهوة المرّة التي لها طعم أحزاني لم تؤاسيني في التخفيف من رائحة حريق الغابات البديعة لكسب والفرلق وغيرها من ربوع سوريا الفاتنة. اللاذقية مغلفة كل صباح بضباب الحريق. أشجار الصنــوبر الرائعة التي كانت تتجدّد بنــسغ الحياة عاماً بعد عام لن تتمكّن من بعث الحياة في جذورها وأغصانها وفي قلوبنا بعد الآن. الحريق ليس حريق غابات فقط بل هو حريق قلوب السوريين الذين طفح بهم الكيل وصاروا يستجدون الحياة.
Leave a Reply