واشنطن، نيويورك – في نهاية المطاف فاز الرئيس باراك أوباما بفترة رئاسية ثانية بفضل القضية التي كان من المفترض أن تكون سببا لخسارته.. ألا وهي الاقتصاد الأميركي المتباطئ، ولكن البورصة الأميركية لم توافق الناخبين الرأي فقد شهدت في اليوم التالي للانتخابات (الأربعاء الماضي) انخفاضاً حاداً هو الأكبر لها منذ حزيران (يونيو) الماضي.
(تراجع مؤشر «داو جونز» الصناعي بحوالي ٣١٢ نقطة أو 2,٣٦ بالمئة، بينما هبط مؤشر «ناسداك» التكنولوجي 2,4٨ بالمئة، وتراجع «أس آند بي 500» الإستهلاكي بنسبة 2,٣٧ بالمئة)
ويواجه أوباما الذي أقنع الأميركيين بمنحه أربع سنوات أخرى في الرئاسة مهمة شاقة لإعادة الاقتصاد الأميركي إلى النمو السريع، فقد واجهت الولايات المتحدة صعوبة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي أعلى من اثنين بالمئة منذ الركود الذي حدث في 2007-2009 وما زالت نسبة البطالة 7,9 بالمئة.
وهناك نحو 23 مليون أميركي بين عاطل عن العمل وعامل بدوام جزئي لا يستطيع إيجاد وظيفة بدوام كامل وراغب في العمل لكنه توقف عن البحث.
ولا تزال الولايات المتحدة تسعى جاهدة للتعافي من أشد ركود في 80 عاماً ولا يضيف أصحاب العمل ما يكفي من الوظائف لمواكبة النمو السكاني. وتبخرت تريليونات الدولارات من ثروات الأسر في فقاعة سوق الإسكان بينما تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
لكن على مر التاريخ منح الناخبون فترة ثانية للرؤساء الذين قادوا نمواً اقتصادياً ولو متواضعاً خلال سنة الإنتخابات. ويبدو أن هذا النمط تكرر مع أوباما. فبالرغم من أن الاقتصاد لم يتقدم بخطى قوية إلا أنه تحسن بشكل مطرد على مدار العام.
وأمام هذا المشهد المعقد يجد أوباما نفسه أمام استحقاق اقتصادي-سياسي كبير يتمثل بالتوصل الى «تسوية كبرى» لتلافي «حافة الهاوية المالية» مع اقتراب بلوغ الدين الأميركي سقفه الجديد مع نهاية العام الجاري.
وإذا لم يتوصل الكونغرس لتسوية ديمقراطية- جمهورية لرفع سقف الدين وإقرار الميزانية العامة قبل نهاية العام ستطبق زيادة كبيرة أوتوماتيكياً على ضرائب مختلفة تصيب جميع الأميركيين. كما تبدأ الحكومة في خفض كبير لمصاريف صحية واجتماعية ودفاعية، وهذا ما يثير مخاوف «وول ستريت».
الإقتصاد فـي الإنتخابات
يقول جون سايدز أستاذ العلوم السياسية في جامعة «جورج واشنطن» إن أوباما «لم يكن في باله أبداً أنه سيحقق فوزاً ساحقاً. بل كان دائماً متوجساً من الخسارة».
وقد اتخذ أوباما خطوات كبيرة لدعم الاقتصاد لكن لا يبدو أنها ساعدته كثيرا في نظر الناخبين. وتظهر استطلاعات الرأي انقسامات كبيرة بشأن الفوائد المتحققة من إجراءات التحفيز التي أطلقها عام 2009 و«إصلاحات دود-فرانك» المالية وخطة إنقاذ صناعة السيارات.
لكن هذه الخطوات صنعت فارقا في مكان واحد مهم. فقد اعتمدت الحملة الانتخابية لأوباما في أوهايو بشدة على إنقاذ صناعة السيارات حيث ترتبط وظيفة واحدة من كل ثماني وظائف في الولاية بهذه الصناعة. وربما ساعده ذلك على الحد من خسائره هناك بين البيض وهم شريحة من الناخبين فاز رومني بأصواتها بكثافة في أماكن أخرى.
ووفقا لاستطلاع «رويترز-إبسوس» لآراء الناخبين عند خروجهم من مراكز الاقتراع خسر أوباما أصوات البيض في سائر أنحاء البلاد بواقع 21 نقطة مئوية. وفي أوهايو خسر أصواتهم بواقع 12 نقطة فقط، ويعود ذلك في أوهايو الى قوة الطبقة العمالية المرتبطة بصناعة السيارات.
واستفاد أوباما أيضاً من حقيقة أن الناخبين يلومون سلفه الجمهوري جورج بوش على الركود. وقد جعل ذلك جزءاً محورياً من رسالة حملته حيث قال إن رومني سيعيد السياسات التي عجلت بالانهيار.
وإذا كانت حملة رومني قد أرادت تركيز الانتخابات على القيادة الاقتصادية لأوباما فقد أرادت حملة أوباما أن تجعلها اختيارا بين مرشحين.
وبدأت حملة أوباما الهجوم مبكراً بسيل من الدعاية السلبية التي صورت رومني المليونير الذي عمل في السابق في مجال الاستثمار المباشر كصائد للشركات لا يعبأ كثيرا بأحوال عامة الناس. واستدعى ذلك مقارنات بين هذه الهجمات غير المحمودة وبين حملة أوباما التاريخية للفوز بالرئاسة عام 2008 لكنه قلل مصداقية رومني في أعين كثير من الناخبين. وقال غريغ فاليير المحلل لدى «بوتوماك ريسيرش غروب» في واشنطن «كثير من البيض من الطبقة الوسطى الذين لا يحملون شهادة جامعية استخلصوا أن رومني ليس واحداً منا».
ولن يثير فوز أوباما الذي جاء بفارق طفيف الخوف في قلوب الجمهوريين الذين احتفظوا بالسيطرة على مجلس النواب. واحتفظ الديمقراطيون بالسيطرة على مجلس الشيوخ لكن ستقل أعداد المعتدلين من كلا الحزبين في الكونغرس.
وهذه وصفة لمزيد من الخلاف والمواجهات بشأن الضرائب والإنفاق. وسيكون الوصول إلى توافق حتى بشأن التشريعات الروتينية أمرا صعبا.
وقال جوليان زلايزر أستاذ التاريخ في «جامعة برينستون» «لن يكون الكونغرس عامرا بكثير من النوايا الطيبة… ستكون صفوف الحزبين أكثر تشددا بعد هذه الانتخابات». وربما يجعل هذا الاستقطاب الزائد مهمة الحاكم صعبة لكنه جعل السباق الانتخابي أكثر سهولة لأوباما. ففي زمن المشاعر الحزبية القوية تمتع أوباما بدعم أكثر قوة من أعضاء حزبه مقارنة بما حظي به الرئيسان الديمقراطيان السابقان جيمي كارتر وبيل كلينتون.
وقال تيلور غريفين الذي قدم المشورة للمرشح الجمهوري جون ماكين في حملة 2008 «ستقل أعداد أولئك الذين يتحولون من دعم مرشح إلى دعم آخر. هناك تشدد كبير في كلا الجانبين».
وبالنسبة للجمهوريين يثير فوز أوباما بفترة ثانية تساؤلات غير مريحة. ففي ثاني انتخابات على التوالي لم يتمكن المرشح الجمهوري من الفوز بأكثر من صوت واحد من كل ثلاثة أصوات للناخبين من أصول لاتينية وقد يجد الحزب صعوبة في المنافسة في الانتخابات الوطنية ما لم يكسب مؤيدين بين هذه الشريحة التي تنمو بوتيرة متسارعة. والآن يقع مركز جاذبية الحزب في مجلس النواب حيث يمثل العديد من الأعضاء مناطق محافظة للغاية. وليس هناك ما يشجعهم على تقديم تنازلات في مسائل مثل إصلاح قوانين الهجرة لأن ذلك قد يثير غضب قاعدتهم المكونة من الناخبين البيض الأكبر سناً.
واحتاج رومني للتغلب على شكوك من جانب المحافظين خلال المعركة المضنية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري ولم يتمكن من مخاطبة الناخبين المستقلين المتأرجحين قبل الشهر الأخير من الحملة الانتخابية. غير أن جون هوداك زميل «معهد بروكينغز» يقول إن من المرجح أن يقتنع العديد من أعضاء الحزب بأنه سيكون من الأفضل الدفع بمرشح محافظ بدرجة أكبر في المرة القادمة. وقال «سيتجه الحزب يمينا… سيقولون انظروا.. لم يكن ينبغي أن ندفع بمرشح معتدل».
الهاوية المالية.. خطر محدق
ينتظر الولايات المتحدة في الأول من كانون الثاني (يناير) 2013 خطراً يطلق عليه «حافة الهاوية المالية»، أو «قنبلة الدين الموقوتة» الأمر الذي يتطلب من الديموقراطيين والجمهوريين جهوداً مكثفة لتحقيق «تسوية كبرى» للتوصل إلى صفقة حول الموازنة تخفض الدين العام ( يقارب 16 تريليون دولار). وإذا فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق، فإنه في الأول من كانون الثاني ستبدأ زيادة كبيرة أوتوماتيكية على ضرائب مختلفة تصيب جميع الأميركيين. كما تبدأ الحكومة في خفض كبير لمصاريف محلية ودفاعية.
ومع انتخاب أوباما وحفاظ الجمهوريين على الأغلبية في مجلس النواب تزداد مهمة أوباما في تفادي «الهاوية المالية صعوبة.
وأشارت صحيفة «كريستشن ساينس مونيتور» إلى أن مجلس النواب الأميركي بقيادة الجمهوريين لا يزال يرى أن مهمته الأولى الحيلولة دون ارتفاع الضرائب على الأغنياء، وهو ما يسعى إليه أوباما والديمقراطيون، قائلة إنه في حال عدم تعاون الديمقراطيين والجمهوريين معا فإن البلاد ستكون عرضة للانهيار المالي الذي يخشاه الجميع.
ونقلت الصحيفة في ختام تعليقها عن جون باينر، رئيس مجلس النواب الأميركي، الذي يعارض بشدة رغبة أوباما في رفع الضرائب على الأثرياء ممن تزيد دخولهم في العام الواحد عن 250 ألف دولار، قوله «إن ما يحتاج إليه الشعب الأميركي هو التوصل لحلول من شأنها تخفيف العبء على كاهل صغار المستثمرين، وخلق المزيد من الوظائف، وفتح الباب للاقتصاد نحو النمو.. إننا على استعداد للتعاون مع أي شريك يتعهد بتحقيق تلك الأمور، سواء أكان جمهوريا أم ديمقراطيا أم غير ذلك».
وبالإضافة الى مخاوف الإقتصاديين و«وول ستريت» فـ«للهاوية المالية» آثار سلبية قد تطال الإقتصاد العالمي، فقد حث وزراء مالية ومحافظو البنوك المركزية في مجموعة العشرين (جي ٢٠)، على اتخاذ خطوات ايجابية لتجنبها.
وحذر البيان الختامي للاجتماع الذي عقد الأحد الماضي في المكسيك من «الهاوية المالية» في الولايات المتحدة والمخاطر الناجمة عن تأخير حل أزمة الديون السيادية الأوروبية، فضلا عن بعض مشاكل المديوينية المحتملة التي قد تواجه اليابان، ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والنمو العالمي.
Leave a Reply