عن المحنة التي اجتازها في قطر ممنوعاً من السفر مدّة سنتين تقريباً ومفصولاً عن زوجته وأطفاله الثلاثة مدّة زادت عن سنة بعد أن اضطرّوا إلى العودة إلى الولايات المتحدة، نشر رجل الأعمال العربي الأميركي ناصر بيضون كتاباً باللغة بالإنكليزية تحت عنوان «قصر الزجاج: أوهام الحرّية والديمقراطية في قطر». صدر الكتاب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 عن دار «ألغورا بابليشنغ» الأميركية، موقّعاً باسمي ناصر بيضون والكاتبة جنيفر بوم التي اشتركت في التأليف.
يتميّز الكتاب بالتوازن الذي يرعاه ما بين التجربة الشخصية: تجربة «الرهينة الاقتصادية»، ناصر بيضون، في هذه المرحلة وبين العرض الموثّق لوجوه مختلفة من السياسة القطرية ومن سيرة النظام القطري ودلالات سلوكه المتباين، بل المتناقض من بعض الوجوه، بين مجال الداخل القطري ومجال الخارج الإقليمي والدولي. فالقراءة هنا هي، في الواقع، تنقّل ممتع بين هاتين السيرتين: سيرة النموّ والدور القطريين وسيرة شخص وجد نفسه عالقاً، من غير ذنب اقترفه، في فخّ نظام يجعل للمواطنين القطريين على الوافدين إلى قطر بهدف العمل ما يشبه سلطة السيد على العبد ويدع هؤلاء الوافدين مجرّدين، إلى حدّ بعيد، من الحماية في وجه «الكفيل» الذي يتعلّق بإرادته وجودهم في قطر بجميع وجوهه بما فيها، على الخصوص، إمكان مغادرة البلاد وكذلك إمكان العمل والعيش فيها أيضاً. وذاك أنه يسمح للكفيل أن يقرّر احتجاز المكفول في البلاد ومنعه من العمل فيها، في آن، لأسباب يعود تقديرها إليه وحده. هذا إذن نظام مفتوح على أحطّ أنواع الابتزاز… فلا يتردّد المؤلّفان في نسبته إلى العبودية مستندين إلى العرض والتحليل العامّين لقواعده ومضمراته من جهة وإلى الخبرة المباشرة لناصر بيضون في أثناء مدّة احتجازه في الدوحة من الجهة الأخرى.
يفتتح الكتاب بفصل مكرّس لوقائع النموّ القطري الاستثنائي الوتائر والقائم على ريوع المشتقات النفطية، وهو النموّ الذي استدرج إلى هذه الإمارة الصغيرة (عدد القطريين الأصليين لا يزيد عن ربع مليون نسمة) مهاجرين من مختلف أقطار الدنيا ومن كلّ المهن والصنائع. فأمسى عدد الوافدين يساوي أزيد بستّ مرّات من عدد السكّان المواطنين بل أمست نسبتهم إلى هؤلاء أرفع مثيلاتها في العالم كله. وتحل زيمبابوي ثانية بعد قطر في هذا المضمار، ولكن المسافة بين الدولتين كبيرة جداً.
لا يفوت الكاتبين، على صعيد آخر، أن يعرضا ما يبدو خطّة قطرية للخروج من التبعية للريع النفطي والانطلاق في بناء ما بات يسمّى «اقتصاد المعرفة»، ولكنهما يوضحان أيضاً ما يبدو جوانب ضعف بنيوية في «رؤية 2030» هذه. وفي مساق هذا المسعى، تندرج استضافة فروع لبعض من كبريات مؤسسات التعليم الجامعي والبحث العلمي في العالم ويندرج أيضاً سعي لفرض حضور متعدّد الوجوه للإمارة على الخريطة الإقليمية وحتى الدولية يستند في مسلكه التدخّلي إلى إمكاناتها المالية أساساً ويفوق كثيراً ما يبيح الطموح إليه حجم الدولة البشري والجغرافي. هكذا نجد للإمارة سياسة ناشطة في عدد لا يستهان به من دول المنطقة ودوراً في الأزمات المزمنة وفي تلك المستجدّة. ويجد هذا الحضور الاستثنائي نوعاً من التتويج الرمزي في تمكن قطر من انتزاع الحقّ في استضافة دورة كأس العالم لكرة القدم المقررة في سنة 2022!
على أن الخبرة الشخصية لمؤلف الكتاب تفتح الباب واسعاً على الوجه المظلم من هذا القمر… على جوانب من وقائع الحياة وسلوك النظام في قطر تحجبها المنجزات المادية الفاقعة وكثرة الحركة في المضامير السياسية ولا تسلّط عليها الأضواء بقدر ما يجب أن تسلّط. فالنظام القطريّ الذي يبدو حاملاً راية الديمقراطية في المنطقة ومتشدّداً في الاحتجاج على القمع وحجب الحرّيات في بعض أنظمة التسلّط هو نفسه نظام مغلق، يقوم على الاحتكار العائلي للسلطة وعلى توارثها في نطاق حلف عائلي محدود ولا يتقبل تشكيل هيئات للمعارضة السياسية ولا تنطوي هيكليته على مؤسسات منتخبة يعتدّ بها، تؤمن التمثيل المناسب للتعدد السياسي الماثل في المجتمع وتنظّم تداولاً للسلطة بين القوى المتنافسة وتتولّى الدفاع في وجه السلطة عن حقوق المواطنين والوافدين من عامّة وخاصّة.
عوض ذلك، نقع على إغراق للسياسة في المنافع الاجتماعية المتاحة للمواطنين وعلى انفراد للعائلة الحاكمة وحلفائها في التصرف بموارد البلاد وبمستقبلها دون أدنى إمكان لمراقبة أو لمعارضة وتصويب. وعليه تختفي تحت مستويات النموّ الباذخة والارتفاع الهائل للدخل، انحرافات في نمط النمو ومظاهر قصور وهدر عالية الكلفة على البلاد ودافعة إلى الشك في فاعلية التوجّه نحو مخرج من الاعتماد على الدخل النفطي القابل بطبيعته للنفاد وبناء بديل له يتجسّد فيه المستقبل الآمن للشعب القطري.
يبقى أن مصطلح «الكفيل» هو الكلمة المفتاح لدخول العالم الذي يرسم معالمه هذا الكتاب، و«نظام الكفالة” الرهيب هو ما يوضع على المشرحة عبر صفحات الكتاب وفصوله وما يستوي مدخلاً رئيساً إلى ما يسوقه الكتاب من وقائع ترسم صورة قاتمة لنظام العمل والإنتاج في قطر وللظروف التي تكتنف عيش الوافدين إلى البلاد للعمل، وهم، على ما أشرنا إليه، الأكثرية الساحقة من المقيمين والقوة المنتجة الرئيسة التي تدين لها قطر بنموها وازدهارها.
عليه لم يكن غريباً أن تكون أوضاع هؤلاء هي المحور الأبرز للكتاب ولا أن يطل المؤلف، بما هو واحد من هؤلاء الوافدين، على هذه الأوضاع من نافذة المحنة الشخصية التي اجتاز فصولها الصعبة بصبر وشجاعة وحنكة وخرج منها ظافراً بحقوقه وبسمعته ومصمّماً على رفع الستار عن وقائع لا إنسانية تضيّق الخناق على كل وافد للعمل، لا في قطر وحدها بل في دول الخليج كلها، على الأعمّ. هذا ويضمّ المؤلّف إلى تفصيله مندرجات النظام والقيود التي يفرضها على الوافدين ذكراً لأهمّ ما صدر من مطالبات بإلغائه من مراجع دولية مختلفة وللوعود التي قطعتها دول خليجية مختلفة بإلغائه ثم لتملّصها، على وجه الإجمال، من هذه الوعود.
يروي ناصر بيضون بالتفصيل ما مهّد لسفره إلى قطر من وقائع حصلت حين كان وجهاً قيادياً من وجوه الجالية العربية-الأميركية في ميشيغن، وهو ما أنشأ صلات بينه وبين مسؤولين ورجال أعمال عرب مختلفين بينهم قطريون. ثم يذكر وصوله إلى الدوحة مديراً تنفيذياً لشركة «الوطنية»، مكلفاً إنشاء مطاعم تابعة لها في الدوحة نفسها وفي مدن عربية أخرى… وهو يذكر ما وقف عليه من أوضاع غير سوية في الشركة فاقمت وقع الأزمة العامّة التي اشتدّت سنة 2008 عليها ويفصّل ما قدّمه من مقترحات لتعزيز التمويل حتى تتمكن الشركة من الصمود وما بذله من جهود في المدّة نفسها لفتح منشآت منتجة للشركة بعد أن كانت قد بقيت مدّة في حال جمود واستهلكت جانباً من الأموال الموظفة فيها على نحو عقيم. يذكر المؤلف أيضاً وصوله إلى حدّ الاستقالة من عمله حين أدرك أن مجلس الإدارة لن يضع بتصرّف الشركة ما يمكنّها من توجيه سفينتها نحو مخرج آمن من الأزمة…
عند هذه النقطة، تبدأ محنة الرجل وتظهر فاعلية السلاح الرهيب الموضوع في يد ربّ العمل، وهو نظام الكفالة… لم تقبل استقالة ناصر أول الأمر بل أبقي في الشركة ولكن بلا صلاحيات. وظهر أن توجّه الممسكين الفعليين بمقاليد الشركة، وهم قطريون نافذون، هو إلى اتّخاذ المدير المجمّد كبش محرقة. فيبرّرون لشركائهم ما حلّ بأموالهم الموظفة في الشركة باتّهام المدير «الوافد» بسوء الإدارة وسوء الائتمان. وكان للاتهام من جهتهم مفعول جانبي مأمول هو إجبار المدير على التخلّي عن حقوقه المتوجّبة له في عقده ومنها رواتب أشهر عدّة لم تكن قد دفعت له.
لم يكن للتهم المسوقة ضدّ ناصر بيضون أدنى سند. وقد ثبت ذلك، ولكن بعد وقت طويل، بحكم محكمة العمل وبتقرير الخبير الذي عينته المحكمة المدنية وبإلغاء منع السفر المفروض بطلب من الكفيل، من جانب النيابة العامة. ولكن ما يجعله نظام الكفالة ممكناً هو، على وجه التحديد، تسليط سلاح الوقت على «الوافد» الذي ينشأ نزاع بينه وبين ربّ عمله: فيعمد الكفيل، بوسائل شتى، إلى إطالة المحنة التي يدخل فيها المتّهم، فيما هو بلا عمل ولا إمكانٍ لعمل ينفق منه على نفسه وعلى أسرته، وذلك إلى أن يخضع ويستسلم لشروط الكفيل.
لم يخضع ناصر بيضون. وهو يروي في هذا الكتاب تفاصيل معركته التي امتدت من أواخر سنة 2009 إلى أواخر سنة 2011. وهو قد قضى السنة الثانية من هاتين السنتين (ابتداءً من تشرين الأول 2010)، وحيداً في الدوحة، مفصولاً عن زوجته وأولاده الثلاثة الذين اضطروا للعودة إلى ميشيغان بعد أن خسر الأولاد مدرستهم وخسرت العائلة إمكان الإقامة في مسكن مناسب لها. ولا يهمل ناصر ذكر من ساعدوه ولا من بدوا أقلّ استعداداً لمساعدته. لا يفوته أيضاً أن ينصف النظام القضائي القطري الذي أنصفه، في نهاية المطاف، فبدا أن الخلل الأصلي ليس فيه بل هو في القوانين التي هو ملزم بتطبيقها وعلى راسها نظام الكفالة. فهذه قوانين تكثر فيها وجوه المخالفة لحقوق الإنسان ويقترب ضحاياها، في بعض الحالات، من وضع العبودية، على ما سبق ذكره.
وإلى فصول محنته الشخصية، يقدّم بيضون تفاصيل لمشاهداته في الدوحة تتّصل بنموّ المدينة ومشكلاته. هذه التفاصيل تضيف نكهة خاصّة إلى المعلومات المستقاة من المصادر المنشورة. فيمسي الكتاب طلياً سهل القراءة فضلاً عن أهمية موضوعه وغنى ما انطوى عليه من عرض وتحليل.
كتابٌ لن يندم المهتمّ بموضوعه على قراءته.
Leave a Reply