لمْ تكُن المسافة بعيدةً بين عتَبةِ مقهى حسن عجمي ومنطقةِ ساحةِ الميدان التي يغطّيها المرآبُ الكبيرالذي تنْطلِقُ منهُ أسرابُ الباصاتِ الحُمْر ذواتُ الطابقِ الواحدِ والطابقَيْن لتبْتلِعَها الطرُقُ المحيطة باتِّجاهاتِ أنحاءِ بغداد،كنّا نقْطعها ليسَ مشْياً على الأقدامِ لِوحْدِها، بلْ على جسَدِ الساعاتِ الميِّتةِ أيضاً،إذ ليسَ هنالك ما يلوحُ في الأفقِ أوْ يُنبيءُ عنْ قدومِ فجرٍ آمِنٍ تبدأ منهُ مسيرةُ الإعمار مفَجِّرَةً الطاقاتِ الشعبيّةَ الهائلةَ والكامنة في نفوسِ السكّانِ المتعَطِّشينَ إلى بناءِ البلدِ مِنْ جديد فوق ركامِ الخرابِ المتراكمِ، وإلى تلمُّسِ أيّامِ العيشِ الرغيد في وطنٍ سعيد خاصّةً وإنّ الوهجَ العظيم الذي انبثَقَ من انتِفاضةِ آذارِ الشعبانيّة عام1991 مازالَ ساطِعاً بكبرياءٍ في سماءِ الذاكرة والتي قُمِعَتْ بنارِ الدبّابات وحديد سلاسلِها ومِنْ ورائها نيران رصاصِ البنادقِ الرشّاشة وحديد كعوبِها مِنْ قِبَلِ مسلَّحين مُدَرَّبين على أكلِ اللّحمِ النَيء لحيواناتٍ غيرِداجنة، إذْ لمْ يرِدْ إلينا مايشيرُ إلى أكْلِ لحومِ البشَر، ربّما حدَثَ ذلك بما أنْبأتْ عنهُ أفعالهُمُ الوحشيّة بأجسادِ المنتفِضين وذويهِم، وحرائقُ أبنيةِ مدُنِهِم وامتدادُ حشيشِ خراطيشِ الرصاصِ الذي غطَى شوارعَها والتي وصفَها شاهد ُعيان بالمزاليجِ التي يصعُبُ المشْيُ فوق إسْفَلْتِها لغزارةِ الخراطيش (أنظر كتاب ضماد ميدان لذاكرة جريحة لمؤلِّفهِ الشاعر حسن النوّاب).
تجدَرُ الإشارةُ هنا إلى أنَّ الموضوعَ الذي نبحث فيه لاعلاقة لهُ بالطروحاتِ السياسيّة أوْ منطلَقاتِها أوْ مِنْ داخلِها لأنّنا لمْ نكنْ سياسيّين يوماً ما ولمْ ننخرط بأيِّ تنظيمٍ سياسيٍّ وليس ذلك موضِعَ انتقاصٍ أو إستندام أوالتلميح إلى السلْب لاسيما وإنه عبْرَ مراحلِ حياتِنا تربطُنا علاقات صداقة متينة وحميميّة بسياسيّين من مختلَفِ الإنحدارات ولم يثلم إختلافُ الرأيِ بيننا حجرةً واحدةً من صرحِ المودّةِ القائمِ فينا، وإنّما ترِدُ بعضُ الإستطراداتِ منها هامشيَّةً منْ خلالِ تقصّي آثارِها السلبيّة على البيئةِ الأدبيّة وحاضنتِها الكبرى الطبَقات العريضة من الناس وخاصّةً المستَضعَفين والمضطهَدين والمسحوقين، وإلاّ لتناولناها من الوجهة الكلاسيكيّة للسياسة كغيابِ الحياةِ الدستوريّة ومشروعيّة البرلمان الحقيقي، والفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة أو من جانبِها المنحاز، كمسألة الصراعِ الطبقي، والديالكتيك، والمادّيّة التاريخيّة. عدا عن أنَّ ليس من اختصاصِنا الخوْضُ في غمارِها إحتراماً للمتخصّصين في شؤونِها، إضافة إلى الثبات على أقدامِنا في عدمِ تخطّي الحدود الأدبيّة التي تشكِّلُ مضمونَ همِّنا وآهتمامنا بالمطْلَق، والتي هي أيضاً لا تغفل الإشادة بكلِّ السلوكيّات والقرارات السياسيّة الصائبة التي تلتحم بهموم الشعب والتي تأخذ طابعَ الخدمة العامّة لأوسعِ الطبقاتِ المكوِّنة للمجتمع. كحمْلةِ محوِ الأمّيّة، وحملة تعبيد الطرق، ونشر المدارس، وامتصاص البطالة، وإيصال القدرة الكهربائية إلى القرى والأرياف وشمولها بشبكات مياه الشرب في مقابل تأشيرنا للخطأ الفادح للسياسة في إرتكابِها جريمة التدخُّل في الشأنِ الثقافي، ذلك لأنّهُ معْنيٌّ -خارج التحجيم الذي تفرضهُ الأيديولوجيا- في البحث عبر وسائلِها الجماليّة عن أسئلة الكينونة، وخوض التجربة الحسيّة الجمالية في عالم الوجود الرحيب، واكتشاف قيَمِهِ الجماليّة التي بثَّها الخلاقُ العظيم في كلِّ زاويةٍ من زوايا الطبيعة -بشُقَّيْها المادّي والأثيري- والوجود المقابل للعدم. إنصياعاً للمسَلَّمة المفضية إلى أنّ الحياةَ محدودة الزمن في مسيرة الكائن البشري. قال أبو العلاء شاعر معرّة النعمان:
ضحِكْنا وكانَ الضحْكُ مِنّا سفاهَةً وّحُقَّ لسُكّانِ البريّةِ أنْ يبْكوا
تُحَــطِّمُنا الأيّــامُ حتّى كـأنّنــا زجاجٌ ولكنْ لايُعادُ لهُ سَبْكُ
كانتْ سنواتُ الحصارِ التي تبلورَتْ ملامحُها منذ مطلعِ التسعينات المنصرمة تنخرُفي جسدِ الإقتصاد العراقي وتثيرُ كلَّ كوامنِ الشجن والأسف للمآلِ الذي إنتهت إليه حياةُ الملايين التي كانتْ تطمحُ لغَدٍ أفضل. في ورشةِ العمل الصغيرة التي يمتلكُها شقيقي الأوسط في حيِّ الشعب تعرّفْتُ إلى كادحةٍ أرملة فقدّتْ زوجَها في الحرب أخبَرتْني بأنّ لديْها إبنٌ حدَث يعملُ في معملٍ صغيرٍ للأحذية يقع في شارع الرشيد منطقة المربعة لا تراهُ إلاّ مرّةً في الأسبوع، سالْتُها لماذا والمسافة ليستْ بعيدةً عن سكناكما؟ فأجابتْني: إنّهُ يبيتُ في المعمل لكيْ نوفِّرَ ثمنَ أجورِ النقلِ إلى لقمةِ الخبز! ذلك الجواب الذي سبّبَ لي صداعاً لمْ أشفَ منهُ إلى اليوم رغمَ مرورِ أكثرمن أربعة عشر عاماً على إجتياحهِ لذاكرتي، ورغم أنّي رميْتُ إلى حِجْرِها الشريف غطاءً نقديّاً لأجورالنقل تلك يتعدّى الستّة شهور.
وفي بحرِ سنواتِ الحصار سيِّء الصيت لمْ يثِرْ في نفسيَ السخطَ بناءُ القصورِ الرئاسيّة الخرافيّة ببذخٍ وإسرافٍ لا حدود لهما فذلك شأنُ السياسيّين الخاص، كما أنّي لسْتُ معنيّاً بحياتِهم الشخصيّة في تقضيتِها وإحيائها وسط مباهجِ ألف ليلة وليلة، لكنّ المثيرَ هو انعدام التخطيط في أفكارِهِم الأنويّة لتخفيف حدّةِ الأزمات الخطيرة الثلاث، السكن، البطالة والفقر تحت خطِّه في بلدِ الغِنى والبغددة. والغريب في الأمرأنّها سُمِّيَتْ بقصورِ الشعب في حين إذا مرّ أحدُ أبناءِ الخائبات من أفراد الشعب بطريق الخطأ ولو على مبعدةٍ منها فإنّهُ سرعان ما يلقى وجهَ ربِّهِ قبل موعد الأجّلِ دون تحذيرٍ أو إستجواب.
يجبُ التنويه إلى أنّ المرورَ الخاطفَ والمقتضَب جدّاً على تلك المشاهد المريعة وإيرادِها هو التمهيد والمقدِّمة للدخول إلى المشهدِ الأدبيّ بإعتبارِها تشكِّلُ خلفيّةً حيّةً كانَ لها تأثيرُها البالغ على نتاجِ الأدباء وفي صياغة التشكُّلِ المأساويّ لدواخِلِهم والتداخل الموغل في مرارتِهِ بين نسيجِ أمزجَتِهِم.
البقية في العدد القادم…
Leave a Reply