واشنطن – في العام 2007 دخلت الولايات المتحدة في أزمة مالية كانت بمثابة «11 أيلول إقتصادية» مع انهيار مصرف «ليمان براذرز»، وتفاقم أزمة الديون وما تلاها من انهيار أسعار المساكن وتحولها الى أزمة اقتصادية أدت إلى انكماش الاقتصاد الأكبر في العالم، في الوقت الذي تفاقم العجز الفدرالي الأميركي وارتفاع الديون بشكل كبير بعد أن اختتم بوش ولايته الثانية بموازنات عسكرية هي الأضخم، وأداء اقتصادي هو الأسوأ. وإذا أفلحت السياسات الاقتصادية لباراك أوباما في ولايته الرئاسية الأولى في عدم الوقوع في »ركود مزدوج» وتمكنت من تحقيق نحو متواضع حتى وصل الاقتصاد الأميركي في العام 2011 إلى حجمه في عام 2007 أي السنة التي سبقت الأزمة الاقتصادية.
ورغم تحقيق معدلات نمو بنحو 2,2 بالمئة في الربع الأخير، وتراجع البطالة إلى 7,8 بالمئة، وانتعاش أسواق المال، وارتفاع اسعار المساكن إلا أن الولايات المتحدة تواجه معضلتين رئيسيتين هما: زيادة أعداد الفقراء من 27 مليون معتمد على المساعدات الغذائية قبل 5 أعوام إلى نحو 47 مليونا في الوقت الحالي. كما يعاني الاقتصاد الأمريكي من ارتفاع عجز الموازنة وزيادة الدين العام الذي تجاوز 103 بالمئة في الأشهر الأخيرة مما يهدد بخفض تصنيف الولايات المتحدة الأميركية الإئتماني مرة أخرى في حال عدم توصل الديمقراطيين والجمهوريين إلى اتفاق بخفض الدين العام بنحو الربع إلى 12 تريليون دولار في السنوات المقبلة من نحو 16 ترليونا حالياً، وإلا وقعت البلاد في «الهاوية المالية» ما يعني، حسب الإقتصاديين عودة الإقتصاد الأميركي الى الركود والإنكماش مجدداً.
تبقى حوالي الشهر من الزمن أمام أوباما وزعماء الكونغرس للتوصل الى إتفاقية تسوية لإنقاذ البلاد من «الهاوية» وسط توقعات بمفاوضات شاقة مع الجمهوريين المسيطرين على أغلبية مجلس النواب في شأن قضايا إصلاح الضمان الاجتماعي وإنهاء الإعفاءات الضريبية، إلى جانب قضايا الهجرة وغيرها من القضايا المتصلة.
يشار إلى أن الفشل في التوصل إلى اتفاق قبل الثاني من كانون الثاني (يناير) يعني رفعا للضرائب وخفضاً في الإنفاق بشكل تلقائي بما يزيد عن 600 مليار دولار، وهو ما قد يؤدي إلى جر الولايات المتحدة نحو الركود، ورفع معدلات البطالة. ويرى أوباما أنه من الضروري «الجمع بين الاقتطاعات وبين زيادة العائدات ما يعني «أنه ينبغي على الأميركيين الأكثر ثراء أن يدفعوا ضرائب أكثر قليلاً». ويكرر أوباما طروحاته الرافضة «لمطالبة الطلاب والطبقة المتوسطة بتسديد العجز كله في حين أن أناساً مثلي (أوباما) يكسبون أكثر من 250 ألف دولار (سنوياً) لا يطلب منهم دفع أي ضرائب إضافية. هذا شيء لن أفعله».
وحذر أوباما الذي اعتبر أن الأميركيين دعموا مشروع موازنته عندما أعادوا انتخابه لولاية ثانية في البيت الابيض في مطلع الشهر الجاري، من أنه سيرفض أي اتفاق لا يتضمن زيادة بنسبة 2 بالمئة على ضرائب الأسر الأكثر ثراء والتي تكسب أكثر من 250 ألف دولار في السنة. ومن جهتهم، يرفض الجمهوريون زيادة الضريبة على الأكثر ثراء لأنهم يرون في ذلك إضعافاً لنمو الوطائف.
وتم تعيين وزير الخزانة تيموثي غايتنر للاشراف على المفاوضات التي بدأت مع النواب الجمهوريين للتوصل الى تسوية، كما اعلن مصدر مقرب من الملف لـ«فرانس برس».
وفي حال عدم توصل المشرعين الأميركيين إلى حل وسط من أجل خفض العجز في الموازنة فإن برنامج زيادات ضريبية واقتطاعات في النفقات العامة سيدخل حيز التنفيذ تلقائياً اعتبارا من مطلع العام 2013 (الهاوية المالية). وتخفض خطة التقشف المالي التلقائية العجز إلى أربعة بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل، مقابل 7,6 بالمئة في العام الحالي، لكنها ستدخل الاقتصاد الأميركي في مرحلة الانكماش، وترفع معدلات البطالة.
وعملياً ستؤدي «الهاوية المالية» إلى خفض نفقات الدولة الفدرالية للسنة المالية 2013 تلقائياً بمقدار 109 مليارات دولار، وستمس الزيادات الضريبية جميع شرائح المواطنين بنحو 20 بالمئة مما سيتسبب يفرض ضرائب اضافية بمتوسط ألفي دولار في السنة على عائلات الطبقات الوسطى، ومن المؤكد أن ارتفاع الضرائب بهذه النسبة الكبيرة سوف ينعكس على استهلاك الأميركيين الذي يشكل أهم قاطرة لنمو الاقتصاد في الولايات المتحدة، ويبذر تراجع الاستهلاك وتقليص النفقات العامة بانهيار الطلب الداخلي، ما قد ينعكس على الاقتصاد العالمي. وينذر مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) بأنه لا يملك الأدوات المالية والنقدية لتفادي الانكماش خصوصا أن البلاد لم تتعاف بعد كليا من الانكماش السابق الذي استمر من كانون الأول (ديسمبر) 2007 حتى حزيران (يوينو) 2009.
وتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن تؤدي «الهاوية المالية» إلى تراجع الناتج المحلي الاجمالي الأميركي في العام المقبل بنحو نصف بالمئة، وزيادة معدل البطالة في العام ذاته إلى 9,1 بالمئة مقارنة مع 7,9 بالمئة حالياً. وتذهب بعض السيناريوات المتشائمة إلى أن العواقب سوف تكون كارثية إذ يتوقع خبراء اقتصاديون انهيارا ماليا، وافلاس مئات المصارف، وتعثر تسديد القروض العقارية، وأخطرها ارتفاع البطالة إلى أكثر من 15 بالمئة. ويحذر محللون اقتصاديون من أن احتمال حصول تقليص حاد في الميزانية الفدرالية في الولايات المتحدة لن يكون سوى «حادث بين مجموعة من الأحداث الأخرى» التي قد تنعكس على صعيد العالم، ويحذرون من تزامن «الهاوية المالية» مع الأوضاع الصعبة في أوروبا، والتباطؤ في نمو الاقتصاد الصيني، وارتفاع أسعار النفط بسبب الأوضاع السياسية غير المستقرة في الشرق الأوسط. ويتوقع محللو مكتب «غلوبال إنسايت» حصول «السيناريو الأسوأ» في حال تجمعت كل هذه العوامل وهو تراجع الناتج المحلي الأميركي بنحو 1,7 بالمئة في العام المقبل.
حالياً تظهر بعض المؤشرات حول جدية المشرعين الأميركيين في التوصل إلى حل وسط بشأن تخفيف عجز الموازنة، حيث قال العضو البارز في مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، ديك دوربين، إن المشرعين الأميركيين تقدما طفيفاً في محادثات لتجنب رفع الضرائب، وخفض الإنفاق خلال الأيام الماضية. ولكنه أضاف «لسوء الحظ فإن مجلسي الشيوخ والنواب كانا في عطلة احتفالا بعيد الشكر.. لم يتم تحقيق تقدم كبير».
ومن جهتها، دعت منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لتجنب الولايات المتحدة للهاوية المالية، فضلاً عن احتواء عدم الاستقرار في منطقة اليورو.
وقد نوه الأمين العام للمنظمة أنجيل جوريا إلى أن «الهاوية المالية» يمكنها وضع الاقتصاد الأميركي أمام حافة الركود إذا تحققت، بينما سيدفع عدم حل مشكلة ديون أوروبا السيادية إلى صدمة مالية كبرى، وتباطؤ الاقتصاد العالمي. وترى المنظمة أن الاقتصاد الأميركي سينمو 2,0 بالمئة العام القادم مع شرط تجنبه الهاوية المالية، انخفاضا من 2,3 بالمئة في توقعات سابقة صدرت في أيلول (سبتمبر)، فيما ستكون نسبة النمو عند 2,8 بالمئة عام 2014.
Leave a Reply