بعدَ أنْ وضعَتْ حربُ الخليجِ الثانية أوزارَها وانفراطِ عقدِ خيمةِ صفوانِ المذِلّة والتي تمخّضتْ عنْ ولادةِ الجبل لفأر ِالحصارِ الآتي تلك المرّةِ من الخيمةِ الأمميّةِ للأممِ المتّحدة، لمْ يكنْ للعراقيّين فيها منْ نصيبٍ غير المزيدِ منَ الإضرارِ والمُعاناة، أوَليستِ الحصّةُ التموينيّة في بلدِ المنابعِ الخيراتيّةِ نوعاً بارزاً من الإذلالِ يفرضُهً ذلك القرارُ المزيّفُ باسمِ الأمميّة؟ هذا عتَبٌ مريرٌ متصاعدٌ إلى مصافِّ الإدانةِ لتلك الأمميّة التي تجاهلتْنا -نحن الملايين- وجاملَتْ سلطةَ الإستبداد -بأفرادِها- لكنّ العراقيّين الذين عاشوا أيّامَهم المأساويّةَ في واديهِم الرافدَيْنِيِّ دونَ أيّةِ نأمةٍ في الضمير منْ إخوةِ الحرفِ العربي -المقصود بهِمْ اهرام السلطة- أصرّوا على مواصلةِ الحياةِ بحدودِها الدنيا رغم اجتيازِهم العفويِّ إلى مصافِّ السموِّ الحضاريِّ منْ بوّابة التطلُّع لمعانقةِ الغدِ الأفضل. ولقد فعَلوا، رغم البراقع الشائعة التي ادّعَتْ منَ الدين ألوانَها. وإنّ كلَّ ما هو دونَ الغدِ الزاهرِ زائلٌ حتميّاً.
كانتْ مقهى حسن عجمي-نبضُ بغداد- التي أصبحتْ يتيمةَ شارعِ الرشيد، تغصُّ بالأدباء إزاءَ فراغِ الشارعِ، بعدأنْ فقدَ أعِزَّةً منْ أرواحِ مبانيه.. مقاهٍ عديدةً.. مقهى عارف أغا.. مقهى البرلمان.. مقهى البرازيليّة والمقهى السويسريّ المطلّ منْ كتِفِهِ الأيسر على ساحة التحرير، بدءاً منْ سويعاتِ الظهيرةِ وصولاً إلى الذروةِ عصراً حتّى إذا تكاثفَ الحضورُ وغصّت المقهى بحزانى ومتأهِّبي روّادِها الأدباء أولئك، فإنّكَ لن تجِدَ متّسَعاً داخلَ إحدى التخوتِ الخشبيّة المتراصفة طوليّاً فوق أرضيّةٍ مبلّطَةٍ بالكاشي الموزائيكيّ الإسمنتيِّ الأصفر المتقاطعِ بانحناءاتٍ بُنّيّةٍ، أو المتراصفة مربّعاتيّاً كأنّكَ داخلَها في حوْشٍ من زمانٍ متقادمٍ أهيفٍ، لتُريحَ عليْها جسدَكَ المنهَكَ والتائهَ كأنّما في البرّيّةِ وليسَ في مدينة.
كثيراً ما تحيلني الذاكرة وبإلحاحٍ متواصلٍ إلى تصفُّحِ وجوهِ الأدباء المنتشرين على تخوت المقهى. كان الشاعر نصيف الناصري من أوائلِ الحضور، كما كان القاصّ علي السوداني يبكِّرُ هو الآخر في الحضور ليلحقَ به الأديب جبار أحمد والناقد التشكيلي عباس جاور، وكان يتقاطر على المقهى تباعاً كلّ من الشعراء محمد تركي النصّار، خالد مطلك، عبدالزهرة زكي، عبدالأمير جرص، كريم شغيدل، زعيم النصّار، والفنّانَيْن المسرحيَّيْن كاظم النصّار وجبّار محيبس قبل أن ينتقِلا إلى مقهى الحاج خليل الواقعة بالقرب من ساحة الميدان المطلّة على شارع الجمهوريّة.
كما يدخل القاصّ عبدالستار ناصر بصحبة صديقهِ القاص حمدي مخلف الحديثي وقد سبقهما الشاعر حسين حسن والمترجمَيْن غانم محمود وجان دمّو، ثمّ يدخل الشعراء ناجي إبراهيم، ستّار موزان، ورباح نوري متأبِّطاً حقيبةً جلديّةً تتدلّى من أعلى كتِفِهِ الأيسر، كما يدخل الشاعر حسين علي يونس متأبّطاً هو الآخر حقيبةً جلديّةً تتدلّى من أعلى كتِفِهِ الأيمن تحوي على آخِرِ الإصدارات الأدبيّة العالميّة التي لم يعدْ بمقدور المكتبات الشهيرة تيسيرها للقرّاء بفعلِ الحصار الإقتصادي الخارجي وحصارِ الرقابة الداخلي، كما كان من جُلاّسِها المبكِّرين في المغادَرة ألقاصّ حميد المختار. كما يتراصفُ في الجلوس كلّ من القاصّين محمد سعدون السباهي، شوقي كريم وزعيم الطائي بقمصانِهِم الملوّنة ذوات النقوش الإهليليّة أو الهاوائيّة-نسبةً إلى هاواي-. كما يقدم الشاعر وسام هاشم على عجلةٍ من أمْرِهِ. ومن كربلاء يقدم الشاعر حسن النوّاب وكان آنذاك قد أنهى مخطوطة كتابهِ «ضماد ميدان لذاكرة جريحة». أمّا الشاعر منذر عبدالحر فكان منهمِكاً في دارِ الأمد لصاحبتِها القاصّة الأردنيّة الراحلة حكميّة الجرّارفي إصدار العديد من دواوين وكتبِ المبدِعين العراقيّين الذين حاصرَتْ تطلُّعاتِهِم إفرازاتُ الحصارِ المريرة. ولابدّ من وقفةٍ هنا لتثبيب المأثرة التي إجترحَها الشاعر منذر عبدالحر في تجميع نصوص الشاعر جان دمّو وإصدارِها بعنوان «أسمال» حيث لم تحصل موافقة دائرة الرقابة على إصدارهِ بالمُسَمّى الأصلي له والذي يحمل عنوان «أسمال الملوك» فكان الإرثَ الوحيدَ الذي خلّفهُ بجهدِ وعناء الشاعر منذر وقد عاونهُ على جمْعِهِ الشاعر حسين علي يونس.
في سياقِ تلك الفترة صدرتْ عن مجلّة «أسفار» الكتبُ التالية بدفْعٍ قويٍّ من الشاعر جواد الحطّاب رئيس تحريرها وكما يلي:
1- السائر من الأيّام مجموعة الشاعر محمد تركي النصّار
2- اليدُ تكتشف مجموعة الشاعر عبدالزهرة زكي
3- المدفن المائيّ مجموعة القاصّ علي السوداني
4-سهول في قفص مجموعة الشاعر وسام هاشم والتي تضمّنَتْ مقاطعَ مهمّةً أذكرُ منها:
– يتُها الحرب.. حبيبتي لهم وأنا لكِ، فما الذي يتبقّى؟
– دعوني أعود إلى البيتِ آمِناً بعد منتصَفِ الليلِ وافعلوا ماتشاؤون.
البقية في العدد القادم…
Leave a Reply