تحت عنوان «القصة القصيرة النسوية اللبنانية»، الصادر عن وكالة الصحافة العربية يوثق الناقد المصري شوقي بدر يوسف لعالم القصة القصيرة النسوية اللبنانية من خلال عمله النقدي الأنطولوجي، الذي ينجح في جمع كافة ألوان الطيف القصصي النسوي اللبناني، بما يحمله زخم العلاقة بين الذات النسوية الساردة، والمناخ الإبداعي القائم على تضاريس طبيعية ونفسية خاصة تفرض ذاتها على ما أتت به قرائحهن الإبداعية الخالصة كنسوة ساردات، لهن إحداثيات واقع مغاير تحملن معه عبء الغواية السردية التي فتحت آفاقها على العالم الإنساني، ومن ثم على تاريخ العلاقة بين المرأة والرجل، إلى فتح باب سرد التاريخ الخاص والعام، وكتكوين إبداعي يتجاور مع أنماط السرد الروائي اللبناني من جهة، ومع ما تموج به تيارات الإبداع السردي العربي بصفة عامة كبوتقة كبرى.
يبدو توجه الكاتب نحو تأصيل هذه العلاقة بين المرأة اللبنانية وسردها القصصي القائم على علاقة شغف وولع بالسرد والحكي لينطلق إلى آفاقها ليضع إطاراً عاماً، تنبثق منه تيارات الكتابة التي تتميز بكونها تعيش حالة خاصة من حالات هموم الوطن والإنسان والانتماء والهوية والذات في الشارع اللبناني أولا، ثم في المنافي الاختيارية التي اضطرت إلى اللجوء إليها في أوروبا وأميركا وغيرها من المدن العربية الأخرى، كما تعيش أيضاً مشاكل البيئة والهمّ الاجتماعي وتعدد البنيات العقائدية، هي تعيش هذه الهموم أكثر مما تعيشه بعضهن في البيئات العربية الأخرى؛ مما يعكس رؤية البحث للخوض في سياق يعتبره الكاتب، مغايرا بحكم سماته، حيث تأتي المتغيرات الإجتماعية والنفسية والعقيدية، وعناصر الشتات والإغتراب كملامح هامة مميزة في متن هذا السِفْر التوثيقي الإبداعي النقدي، الذي يسعى فيه الكاتب حثيثا للوصول إلى نسق تراتبي للتأصيل منذ بواكير الكتابة القصصية اللبنانية، بالإضافة إلى رصده لبعض من الدراسات والطروحات التي خبرت هذا المعترك الإبداعي لتواكب تلك الظاهرة بالنقد والترسيخ، إشارةً إلى كتاب الدكتور محمد يوسف نجم «القصة العربية في الأدب العربي الحديث» الذي يرصد أهم هذه الإرهاصات خلال الفترة من 1870 الى 1914، واحتفاءه ببعض الكاتبات من جيل البدايات المبكرة، وكتاب الدكتور سهيل إدريس «القصة في لبنان»، وكتاب الدكتور علي حجازي «القصة في لبنان 1950-1975»، بالإضافة إلى جهود الدكتورة يمنى العيد من خلال «موسوعة الكاتبة العربية» (ذاكرة المستقبل) 2004، وكذلك كتابها «الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومانتيكي في لبنان بين الحربين العالميتين» الصادر عام 1979، وكتاب «الحرية في أدب المرأة» لعفيف فراج (1980)، وصولا إلى كتاب «القصة القصيرة في لبنان.. سيَر ونصوص» (2008) للدكتور ميشيل جحا.
كما يرصد الكتاب تلك البدايات من خلال إبداعات رائدات الكتابة البكر، عبر ما نشرته الكاتبات الأُولْ في الدوريات الأدبية، والتي يعتمد الباحث عليها اعتماداً كبيراً يشير إلى أهميتها القصوى في تحقيق التماس مع الواقع الأدبي في تجربة كل كاتب، مع دورها في تحقيق الانتشار والذيوع وتحقيق الذات المبدعة، وكتاريخ لا يمكن فصله عن التاريخ الأدبي لكل كاتب أو كاتبة إلا أن البدايات الحقيقية يرصدها الباحث من خلال كاتبتين، هما وداد سكاكيني وروز غريِّب، ليكونا بداية انهمار السيل الإبداعي من خلال براعتهن -بحسبه- في: استنشاق رحيق الحياة وكذلك من خلال ما تمنحه هذه الحياة من جماليات الفن ورحيق الأدب. كما تتوالى أجيال الكتابة في متن هذا السفر لترصد جيلا كاملا يحمل سمات التحول والتبرعم والدخول في متن كبير يحوي سمات التغير والتمايز في المجتمع اللبناني، من خلال بدايات النصف الثاني من القرن العشرين.
كما تورد الدراسة تحليلا للسمات المميزة لأعمال كل من إميلي نصر الله، وعائدة مطرجي إدريس، وليلى عسيران، مع نماذج قصصهن. كما تحتفي الدراسة بغادة السمان السورية، بحكم معايشتها للواقع اللبناني من خلال تواجدها في هذا المكان كمشهد أدبي وكوطن إقامة ونشأة ودراسة.
كما يتوالى ظهور الكاتبات في هذا السفر ليشمل نطاق هذه المرحلة كالراحلة منى جبور، وحنان الشيخ، ووصال خالد، وهاديا سعيد، بما تحمله من سمات الكتابة لدى هذا الجيل، وطموحهن نحو تأصيل مضمون إنساني عميق يلتف حول قضايا المرأة.
وتبدو القصة لدى العديد من المبدعات اللبنانيات -بحسب تعبير الباحث- محطة إبداعية، أو ما يمكن أن نطلق عليه: مرحلة التقاط الأنفاس، فيما بين فترات اللهاث الروائي الطويل، وربما كمظهر ملح من مظاهر التواجد الإبداعي على الساحة من خلال الجرائد والدوريات، معرجا على أسماء مثل: مي غصوب، والروائيات علوية صبح، ورينيه الحايك، وهدى بركات، وغيرهن ممن كانت لهن الصولات والجولات الأولى والأساسية مع فن الرواية كما تؤكد الدراسة.
كما يلعب جيل القاصات اللبنانيات الموجود على الساحة الآن -بحسبه أيضاً- دورا مهما في تأصيل حداثة واقع القصة القصيرة في لبنان لارتباط كاتباته بواقع الحياة في لبنان، واختياراته لمضمرات الحياة وسطوتها على الواقع المعيش، فتبدو الإبداعات الشابة على قدر كبير من التوهج والتماس مع واقع جديد متغير يفرض إحداثياته، مع وجود أكيد لمِسْحة التأثر والتعلق بالأساسيات السردية والتوجهات الفكرية الإبداعية لكثير من الكاتبات المتميزات من جيلي الرواد والوسط في الحقل القصصي اللبناني؛ فتبدو من خلال الانطولوجيا أسماء شابة تقتحم المشهد القصصي اللبناني بجرأة ومهارة وتتمتع بموهبة سردية تمكنها من طغيان الظهور بثبات من خلال هذا المشهد، الذي يمتد أحيانا بفروعه إلى خارج لبنان، حيث الخارج مكان إقامة أو ترحال لبعض كاتبات الجيل الجديد، مثل لنا عبد الرحمن، ونجوى بركات، وليلى عساف، وبسمة الخطيب وغيرهن.
إلا أن ثمة سؤال ربما طرُح من خلال هذا السِفْر التوثيقي: هل يعيد التاريخ نفسه، على مستوى الكتابة الإبداعية؟ فكما ظهرت من بين جيل الوسط الكاتبة ليلى بعلبكي لتثير النار من تحت الرماد، فقد أتت كتابات الكاتبة الشابة رحاب ضاهر، بمجموعتها القصصية «أسود فاجر»؛ لتعيد نزع ورقة التوت الأخيرة التي ربما احتجب خلفها جزء من الواقع العاري بأشد أسراره ودهاليزه المعتمة البالغة الخصوصية؛ لتصوغ لواقع الكتابة لغة ومعالجة ربما تكون أشد إيلاما من تناول ليلى بعلبكي في هذا الصدد.
Leave a Reply