لن يضع الاستفتاء المزمع على نص الدستور الجديد حدا للقلق والصراع السياسي والاجتماعي في مصر.
أقرب سبب أن مشروع الدستور المطروح غاية في البؤس، ولا يليق ببلد عظيم كمصر، عرف صياغة اللوائح والوثائق الدستورية قبل ما يقارب القرنين، بينما يبدو المشروع الحالي بدائياً، موسوماً بركاكة الصياغات، ونقص انضباطها القانوني، واضطرابها وتناقضها، وتغليبها لوجهات نظر ومصالح فئات محددة، ومن أول ديباجة النص التي تورد مبادئ عامة معقولة، وتعدها جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وبين هذه المبادئ -مثلاً- مبدأ عاشر يقول بالنص «الوحدة أمل الأمة العربية، نداء تاريخ ودعوة مستقبل، وضرورة مصير، يعضدها التكامل والتآخي مع دول حوض النيل والعالم الإسلامي الامتداد الطبيعي لعبقرية موقع مصر ومكانها على خريطة الكون»، والنص كما هو ظاهر يتسق مع التقاليد الفكرية الراسخة للجماعة الوطنية المصرية، ويميز -مثلا- بين مقولة الأمة العربية ومقولة العالم الإسلامي، ويتحدث عن الوحدة في حالة الأمة العربية كدائرة انتساب قومي، وعن التكامل في العالم الإسلامي المكون من أمم قومية متعددة بالضرورة، ثم لا يلبث هذا الوضوح أن يختفي بعد سطور، ويأتي نص المادة الأولى من الدستور ليخلط الأوراق من جديد، ويتحول إلى نص فارغ من المعنى والالتزام المحدد، ويقول في لغة وصف بدائي أن «الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية، ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية وبامتداده الآسيوي ويشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية»، والحمد لله أن النص الوصفي البائس لم يذكر أن مصر تقع على كوكب الأرض، أو أن كوكب الأرض جزء من المجموعة الشمسية، وإلى آخر النصوص التي قد تصلح لتعليم أطفال الحضانة، بينما يبدو إيرادها في الدستور بغير معنى، ولا التزام قانوني محدد، وعلى نحو ما كان الأمر عليه في دستور سابق وضع عام 1971، وكان نصه الموجز الناطق يقول إن «الشعب المصري جزء من الأمة العربية يسعى إلى تحقيق وحدتها الشاملة».
ومن العبث في هوية مصر القومية إلى العبث في فهم شريعة الإسلام، يمضي مشروع الدستور البائس، فهو يورد في مادته الثانية نصا بليغا محكما منقولا بالحرف عن دستور 1971، يقول النص إن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع»، وهو كلام غاية في الانضباط والوضوح اللغوي والقانوني، لكن نص الدستور البائس يعود إلى الخلط والاضطراب، ويفسر مبادئ الشريعة بما هو دونها، فمبادئ الشريعة -كما هو معروف- هي القطعيات لا الظنيات، وهي ماورد بالآيات قطعية الدلالة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية قطعية الورود قطعية الدلالة، لكن الدستور إياه، يعود فينزل بمبادئ الشريعة إلى ما لا ينتسب إلى المعنى الصافي للشريعة، ويخلط الشريعة المقدسة بالفقه الوضعي غير الملزم دينياً، وعلى نحو ما يرد في المادة 219، والتي تقول نصاً «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة»، وفي موضع آخر يقول نص الدستور «يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية»، وهكذا صارت النصوص فوضى كاملة، ولم يعد أحد يعرف بالضبط ماهية مبادئ الشريعة المذكورة في المادة الثانية، وصار بوسع أي متنطع أن يقول أي كلام وينسبه للشريعة، ومادام بوسعه أن ينسبه إلى فقيه أو مذهب، برغم ما هو معروف من تضارب المذاهب في كثير من الأحيان، ثم برغم أن هذه المذاهب كلها ظهرت في القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة، ثم توقف الاجتهاد الفقهي بعدها، وسرت خرافات ما أنزل الله بها من سلطان، ثم تجيء النصوص الهجينة المضافة لنص المادة الثانية القاطع الصحيح المفسر لنفسه بنفسه، وتخرج عن ملة الاعتقاد الإسلامي الصحيح الصافي، وتفتعل للأزهر سلطة دينية لاتصح لأحد في دين الإسلام، ثم لتجعلنا أسرى لاضطرابات مذاهب فقهية متقادمة، لايصح لأحد أن يزعم أنها جزء من إيمان المسلم، وهي مجرد اجتهادات بشرية محكومة بأوضاع عصورها البعيدة، ومليئة بدواعي الاضطراب والاختلاف، ومتراوحة في آرائها من التنطع إلى الترخص، وهكذا ننتهي إلى فوضى باسم تطبيق الشريعة التي يضيع معناها الواحد في هذه الحالة، بينما الشريعة براء من الجماعات التي وضعت الدستور.
وعلى القياس المختل نفسه، تجري بقية نصوص الدستور، والتي تهدر جزءاً غير يسير من الحريات العامة، وتهدر أغلب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتفسح في باب السلطة التشريعية مكانا لزائدة دودية اسمها «مجلس الشورى»، يقوم بدور العجلة «الاستبن» أو الاحتياطي في حالة حل مجلس النواب، برغم أن المدعو «مجلس الشورى» لم يحظ في انتخاباته الأخيرة سوى بحضور سبعة بالمئة من الناخبين، وهو ما يعني أن إرادة الشعب قالت كلمتها بوضوح قاطع، ورغبت في إلغاء البدعة التي اصطنعها الرئيس السادات قبل اغتياله الدامي في حادث المنصة، والأغرب أن الدستور البائس يكرم مجلس الشورى إياه، وهو في حكم العدم دستورياً، ويعطيه سلطة التشريع كاملة وذلك بعد إقرار الدستور إلى ساعة انعقاد مجلس النواب الجديد، ولا لشيء إلا لكونه مزدحما بأغلبية -اختارتها أقلية الأقلية الشعبية- من جماعات «الإخوان» و«السلفيين»، وهكذا أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، ثم يأبى الدستور البائس إلا أن يكمل سيرته المفضوحة، ويقرر اختصار عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا من 19 قاضياً إلى 11 قاضياً فقط، ولا لشيء إلا لطرد ثمانية قضاة أبرزهم المستشارة تهاني الجبالي، وهكذا يجري تسخير نصوص الدستور لدواعي الانتقام من الخصوم.
وبالطبع، قد لايصح إغفال أو تجاهل صلة الدستور المصنوع بالصانع المتحيز، فقد افتقرت الجمعية التأسيسية إلى اعتبارات التوازن والتنوع والكفاءة، وبدت نسبة غير قليلة من أعضائها في حالة أمية دستورية كاملة ، لا تعرف الفرق بين نصوص الدستور وقانون المرور.
إذن، فلا يبدو نص الدستور، ولا الاستفتاء عليه، لا يبدو ذلك خاتمة لصراع، بل ربما كفاتحة لصدام اجتماعي وسياسي واسع.
Leave a Reply