الزمن، أواخر الثمانينات. الحدث، رحيل يوسف الخال عن دنياه ودنيانا. أوّل ما عرفته، عرفته من خلال قصيدته «البئر المهجورة» التي رحتُ أقرأها كمبتدئة شاطرة تريد أن تكتشف هذا العملاق الذي أسّسَ ما أسّسه في الشعر بل في الساحة الثقافية في حقبةٍ عُرفت بالذهبية، أي فترة أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. كتب هذه القصيدة قبل أن اقرأه بثلاثة عقود تقريباً. عامل الوقت هو الذي يؤثر فيّ عندما أعود إلى أسلافي الشعراء ممن تركوا بصمة عميقة ومتجذرة في الأجيال التي لحقت. وأثّر فيّ حينها، إضافة إلى الفارق الزمني، المنحى اللاّهوتي الذي انطوت عليه القصيدة، اللاهوت في معناه العميق، المؤمن والمشكك في آن، المواجه والعاصي والرافض والمتمرد، ولكن الذي يخبّىء تحت كل هذا، رغم كل ما تنفيه أحيانا ً كلماتُ شاعرِنا المتمردة، يخبّىء تقارباً عاطفياً مع الرموز الدينية التي يُكثر منها في «البئر المهجورة».
وبالمناسبة، ألم يعبّر عن لاهوتيته، أو عن منحاه المتدين الصادق، في عمل جبار، هو الترجمة التي قام بها في أواخر الثمانينات للكتاب المقدس؟! أليس العمل على هكذا ترجمة طويلة ومضنية تعبيراً عن رغبة دفينة أو علنية أيضاً، في التماهي مع العالم اللاهوتي المسيحي الذي ينتمي شاعرنا اليه؟ فهكذا غوصٌ هائل في بحر الكتاب المقدس لهو يدلّ على عاطفة عميقة تجاه مسيحيته التي لم يتنكر لها حتى في أوجِّ عصيانه، مسيحية تظهر تلقائياً وعفوياً وتكراراً، في مروحة واسعة من الدلالات يصعب تجاوزها. وهذه الدلالات أعني بها ما هو متصل بالمعاني المتداخلة الكثيرة في المفهوم الديني لدى يوسف الخال، وهو المفهوم الذي تنطوي عليه في أي حال المسيحية، كالخطيئة والإثم وجها ً لوجه مع الخوف والتهليل والغفران والندم الخ. يقول في «البئر المهجورة» على سبيل المثال : «سألناك ورقة تين، فإنا عراة، عراة. أثمنا إلى الشعر، فاغفر لنا، وردّ الينا الحياة». يكفي هذا المستهل من قصيدة طويلة كي ندخل مباشرة ومن دون تردّد ولا حاجة إلى فكِّ ألغاز، إلى عالم الخال الديني حيث كل معاني المسيحية، أو معظمها، تدفقتْ في هذا المقطع الصغير، وجليّ ميلُ الخال إلى الكلام مع ربِّه، كم هو ميله قويٌّ وملحاح ! أقول إننا لا نحتاج إلى فك ألغاز لأنَّ الصور والرموز في هذه الكتابة واضحة ومنبسطة أمام إدراكِنا وسرعان ما تكشف عن معانيها.
في المقطع الذي يلي حيث يقول: لك الوعد: إنّا/ سنبني بدمع الجبين/ عوالمَ للشعر من عبقر/ مفاتيحهن. جراحك للأولين/ عزاء ودرب خلاص لنا/ إذا صلبوك هناك /فإنك تبعث حيا ً هنا..
يتراءى لنا كوضح النهار كلامه اللاهوتي الذي لا مواربة فيه ولا تمويه. انه يتوجه مباشرة الى ربِّه مع شعور هائل بالذنب من خلال الإثم الذي ذكره، وهذا الجَلْدُ الذاتيّ أحد الشعور الديني في المسيحية في أحيان كثيرة، شعور غالبا ً ما تليه التوبة والتكفير عن الذنب. فنراه بالمناسبة، وبعد التودّد إلى ربه الذي قرأناه في المقطع الأول ها هو يعده بأنه سيكرّم ربّه، وسيعوّض عليه عما فعله به المرتكبون وكأن كل ذنوب العالم هي جزء من ذنوب الخال الشخصية. ألمْ يتعلم في دروسه الدينية أنه يحمل حتى قبل ولادته الخطيئة الأصلية وهي خطيئة لمْ يرتكبْها شخصياً؟! لكن ثمة إشارة إلى الشعر هنا في غمرة هذا الغوص في الإيمان اللاهوتي، حيث نراه وكأنه يكفر عن ذنوبه عندما يعد ربه، ككل من يتوب ويعد بنذر للإماتة وللتضحية، وها هو يقدم قربانه وإماتته على مذبح أو مائدة أو صرح الشعر قائلا ً له إنه سيبني بالدمع او بعرق الجبين عوالمَ الشعر من قلب العبقرية. هذا يعيدني إلى سيرته التي كتبها سنة 1982 في بيته في غزير -جبل لبنان- حيث قال «إني سعيد أنْ ألقى وجهَ خالقي وفي يدي اليمنى حركة شعرية غيّرتْ إلى الأفضل مسيرةَ الشعرِ العربي وفي اليد اليسرى ترجمة عربية حديثة للكتاب المقدس…».
في أي حال، لا بل في الحالتين، كأنّ يوسف الخال يحمل ذنوبَ العالم على كتفيه، كأنّه يحمّل ذاته سببَ الخطيئة البشرية الأولى، كأنه تاليا ً يفعل كل ما في وسعه ويقوم بمجهود جبّار كي يمحو أخطاءَ الآخرين من خلال عمله، من خلال تعبه. فترجمة الكتاب المقدس كما إصداره مجلة «شعر» وما قام به من خلالها من ثورة في الحركة الشعرية آنذاك، هذان الفعلان هما بمثابة واجب فرضه على نفسه ولم يفرضه ربُّه عليه. فالشعور بالذنب عميق عند شاعرنا الخال، هذا الشعور الذي يرافق المؤمن المسيحي بدءا ً بفكرة الصلب ومرورا ً بفكرة أننا خطأةٌ وعلينا التعويض عن ذلك بشتى الإماتات. لكنْ هل كانت ترجمة الأناجيل إماتة وتعذيبا ذاتيا؟ هل كان إصدار مجلة شعر إماتة ؟ طبعا ً لا. لا أرى في عمليه المذكورَين أيَّ نوعٍ من الجلد الذاتي، هذا بالنسبة الينا كقراء، وربما ايضا ً بالنسبة إليه كمستمتع بما يقوم به. لكن ما هو أكيد أنه مزجَ بين المتعة وتعذيب الذات، مزجَ بين الذنب والواجب والفرض، وذلك من خلال العمل الجميل والممتع. من خلال ما يفيده ويفيد سواه، من خلال اجتهاد ونشاط وتطور وتقدم. لكن من ناحية أخرى، أليس هذا المنحى «العمَلي» منحىً بروتستانتياً بامتياز؟! تصرفُ الخال إزاء خالقِه يشبه كثيرا ً التصرف البروتستانتي الأنغلوساكسوني، وهو يقوم على فلسفة العمل.
فالعمل وما من شيء آخر سوى العمل الفردي والجهد الشخصي يخلصك من الخطيئة ويقرّبك من الرب. هكذا تقول العقيدة البروتستانتية. ولم يكتف يوماً الخال بما فعله، كمجلة «شعر»، وتعتبر إنجازاً هائلاً وعظيماً ليس فقط على الصعيد اللبناني، ليس في الساحة البيروتية فحسب، انما على الصعيد العربي أجمع. ألم تستقطب المجلة أهمَّ الشعراء العرب ومفكريهم وصحفييهم؟! ألم يدرْ في محورها معظم شعراء الحداثة من كافة البلدان العربية من لبنان الى سوريا والعراق وفلسطين وسواها؟
الحركة التي أنشأها يوسف الخال ثقافياً وشعرياً في بيروت كانت بالنسبة اليه، ليس فقط ضرورة ثقافية إنما واجب إنساني وديني قبل كل شيء، كما يتبين لنا ليس فقط من خلال قصيدته المفعمة بإشارات دينية إنما من خلال ما كان يبوح به في حوارات أجريت معه. ومن هنا، ألمْ يشكُ من غياب الفكر النقدي عن الساحة الثقافية العربية ؟ قال مرة في حديثٍ إلى الزميلة زينب حمود حول سؤال طرحته عليه: «إننا في نهضتنا الشعرية الراهنة بحاجة إلى أن ترافقها نهضة في النقد… فما رأيك بالحركة النقدية في أيامنا الحاضرة ؟»، وكان له أن أبدى برأيه الذي منذ بداية تأسيسه مجلة «شعر» رافقه وحاول أن يؤسس أيضا ًوموازاةً من خلال هذه المجلة، حركة نقدية تنفض عنها غبار السبات، ونجح عبر الشعراء الذين تمحوروا حول «شعر»، لكنه بات مقتنعا ً بأن النقد الحقيقي في مفهومه العلمي كالذي هو قائم في الغرب لا يزال غائبا ، وهذا عندما يجيب عن السؤال قائلاً: «الحركة النقدية في أيامنا السالفة والحاضرة لا تزال ضعيفة لا تنهض إلى مستوى ما تحقق في الشعر، مثلاً هناك رغبة الموهوبين شعريا ً في أن يصبحوا شعراء لا ناقدين… وهناك أسباب أخرى، منها ضحالة الثقافة…».
قلق يوسف الخال كان حقيقياً وربما شعر بالخوف من مواجهة ربه والحال هذه، فماذا يقول له؟! كيف يواجهه ولم يستطع أن ينهض بالحركة النقدية على غرار ما فعل بالحركة الشعرية حيث نفض كل قديم ومهترىء وأعاد الوهجَ إلى القصيدة العربية. صحيح أنّ النقد كان في أوجِّ أيام مجلة «شعر» ولا ينكر ذلك يوسف الخال، لكن اليأس من المثقفين أنفسهم لم يبارحه. فيقول أيضاً في ذلك الحوار، مما قاله في الأسباب الأخرى «(…) الدجل والنفاق وغياب الجرأة كما غياب الشجاعة في قول الحقيقة من غير مسايرة أو مواربة».
وعودة الى الجو الإيماني-الديني الذي تتميز به «البئر المهجورة» بشكل خاص، نعثر على رموز وإشارات ومدلولات عديدة كلها تتعلق بشكل أو بآخر بالمسيحية، أي بما يغرفه في أكثر من صورة من ينابيع الكتاب المقدس فنقرأ عنده مثلاً: دارتي السوداء ملأى بعظام/ عافها نور النهار/ من يواريها الترابا؟/ علها تُبعث يوما/ تدفع الصخرة عنها/. متى تمحى خطايانا؟ متى تورق آلام المساكين؟ متى تلمسنا أصابع الشك؟/ فللطوفان آثارٌ على قميصي الرطب/ … أعطشان خذ الصخرة واضربها/ أفي العتمة؟ دحرجها عن القبر/ … وإما صرت عريانا ً/فخذْ من ورق التين رداءً يستر الإثم/ … وفي التجربة الكبرى تصبّر صبر أيوب/ … صليب الله مرفوع على رابية الدهر/… إله لم يمت بعد، إله سكب الحب على الجرح…
غزارة الرموز الدينية تغزو قصيدته وكأن شاعرنا لا يرى سوى عبر مسيحيته، وكيفما كتب ونظر إلى العالم وإلى الوجود، فعل هذا من خلال تقواه التي لا تخلو من نزاع داخلي، مهما يكن، عندما يذكر «أصابع الشك». لكن في هذه الصورة تحديداً، ثمة ازدواجية في فلسفة الخال: فمن ناحيةٍ، فكرةُ الشك تأخذنا إلى عدم اليقين الذي يتميز به كل مفكر وكل من ليس متدينا ً إزاء كل ما يعيشه، ومن ناحية أخرى فكرةُ الشك تعيدنا حتى هنا، في صلب الريبة الوجودية الممكنة، إلى شخصية توما، أحد تلامذة المسيح الذي شكك في ربّه. والازدواجية في قصيدة الخال تتجلى في أكثر من بيت أو صورة حيث نعثر أيضاً على ما ذكرتُه أعلاه «دارتي السوداء…»، وهذا اللون هو من ألوان اليأس أو الظلام، أي هي علامات بعيدة عن التقوى والإيمان. لكنْ مرّة أخرى، ألا يُلحق الخال هذه الصورة الأولى بصورة تنقضها تماما ً ليقول كما أتى آنفا «ملأى بعظام عافها نور النهار …». لكن مهما يكن، ومهما عثرنا على ما هو نقيض الإيمان المسيحي وعلى ما يأخذ إلى التراجع والتحول نحو بعض الريبة، يبقى الجو المسيحي المحض طاغيا ًعلى كتابته في «البئر المهجورة»، وما الأمثلة المذكورة أعلاه سوى أوضح دليل على ذلك. بل يذهب بعيداً جداً ليتخطى الفكر والشعر والصورة والكتابة ويصل إلى مسك ختام القول، قوله، وهو يزيّنه بما علمته إياه المسيحية، ألا وهي المحبة «إله سكب الحب على الجرح» وهنا يشير إلى عملية الصَلب كما إلى مسامحة المصلوب. بل وأبعد من ذلك، حين يكرّس الصليب تاجاً، إذا أمكن القول، على العالم «مرفوع على رابية الدهر».
نقرأ «البئر المهجورة»، ولا نقع في الشك ولا في الريبة. فشاعرنا يوسف الخال صبّ فيها كل ما أوتي من إيمان واندفاع مسيحي، سكب كل هذا في قصائد لا تزال مع ذلك موضوع تساؤل عميق حول قدرة الخال الفذة على الجمع بين مفهوم الكتابة من أجل تمجيد ربّه ومفهوم الواجب الديني من خلال الشعر والحركة الشعرية التي فجرها في مجلة «شعر».
أذكر يوم مات الخال، وكان ذلك في شهر بارد وماطر وكانت الحرب اللبنانية في أوجِّها، كانت المناطق مغلقة على بعضها بعضا ً، وأنا كنتُ في بداياتي الصحفية، في جريدة «النهار». أذكر ذلك اليوم، وصلني الخبر بطريقة غير مباشرة، لم أكن أعرف الخال سوى من خلال كتاب ضمّ «أعماله الشعرية الكاملة» عن «دار العودة»، اشتريته في أوائل الثمانينات، بعد أن كنت سمعتُ عنه الكثير. بعد ربع قرن على وفاته، أتساءل لماذا هذا الرجل الذي أقام الدنيا وأقعدها في الحركة الشعرية الحديثة، هذا الرجل الذي ترك ما تركه لأجيال أتت من بعده، أتساءل لماذا لم تتذكره بيروت في ذكرى رسمية ولائقة، أو لماذا لم تتذكره أقله قرية غزير حيث عاش ومات؟
Leave a Reply