لم يكن أحد ينتظر أن يصل الغضب بفئات من الشعب التونسي إلى حد رشق رئيس دولتهم، المنصف المرزوقي، ورئيس برلمانهم، مصطفى بن جعفر، بالحجارة في مناسبة كان من المفترض أن تكون سعيدة، وحسب مصادر أخبارية كاد الأمر أن يصل إلى ما لا يحمد عقباه لولا إجلاء قوات الأمن للرئيسين إلى مركز الأمن حيث واصل الأهالي محاصرتهم وحاولوا إقتحام المركز لو لم يتم تفريقهم بعد وصول تعزيزات أمنية طوّقت المكان.
فما الذي جعل تونسيون يخرجون عن حدود اللياقة «ليرشقوا» قادتهم الذين يمثلون رمز سيادة الدولة أثناء الإحتفالات التي أقيمت الإثنين الماضي (١٦ ديسمبر) في مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية احتفاءً بمرور عامين على ثورة «14 جانفي» التي عصفت بنظام زين العابدين بن علي؟ هل هي تُخمة ديمقراطية أم هو انتهاء لصبر طال على حكومة اعتمدت التسويف والتعليل لبطء حلّها لمشاكل الناس الذين فاض كأس صبرهم بعد سنتين من حكم «ترويكا» لم يروا في سياستها إلاّ وجها آخرا لدولة بن علي؟.
بعد الإطاحة بنظام الفساد والدكتاتورية إثر ثورة قدّم فيها التونسيون أروع الأمثلة للتضحية والإصرار على إقتلاع أحد أكثر الأنظمة تسلّطاً بالمنطقة، صبر التونسيون على حكومتهم الإنتقالية ومرت الذكرى السنوية الأولى في نوع من الوفاق لأنّ الجميع كانوا منشغلين بإرساء مؤسسات الدولة الجديدة عبر انجاز انتخابات واختيار برلمان تأسيسي وحكومة منبثقة عنه لأول مرة في تاريخ البلاد.
انتظر شعب تونس وكان الجميع يأملون في أن يروا في «حكومة الثورة» سمات تمنوا أن يروها في «الجمهورية التونسية الثانية»، أقلّها هو بداية تغيير ملموس على الأرض يترجم المرحلة الثورية التي تعيشها البلاد ويحقق تطلعات أغلب جماهير الشعب بتأليف حكومة تكنوقراط أو سياسيين من الكفاءات دون النظر إلى جهة أو قرابة أو انتماء حزبي، وإرساء آليات واضحة تضمن حياة سياسية ديمقراطية والإرتقاء بمستوى العيش لكل الفئات المحرومة عبر تطوير الواقع الاجتماعي والإقتصادي وفتح الباب لتوظيف أصحاب الشهادات الذين عانى بعضهم من بطالة دامت أكثر من عشر سنوات. فهل تحقق شيء من ذلك؟
سنتان عجفاوان
مرت السنة الأولى لحكومة «الترويكا» التي ترأسها حركة «النهضة» ممثلة بأمينها العام حمادي الجبالي، رئيس الحكومة الحالية، بمشاركة «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» الذي كان يرأسه رئيس الجمهورية الحالي، منصف المرزوقي، و«التكتل من أجل الحريات» الذي يرأسه مصطفى بن جعفر الرئيس الحالي للمجلس التأسيسي.. ثم بدأ تململ العديد من الفئات داخل البلاد نتيجة أنّ عديد شعارات الثورة وقع الإلتفاف عليها أو إهمالها ولم يلمس الناس أي تغيير حقيقي في حياتهم بل إنّ هناك لغة جديدة وحديثاً عن «قوى» تعرقل مسيرة الدولة وعن وجود «أخطار» داخلية وخارجية بدأ يُروج لها ولكن الناس لم يروا فيها، وإن وجدت، ما يكفي لتبرير ضعف أداء الحكومة وتأخرها في انجاز ما وعدت به، وأحسّ الناس أنّهم صاموا ثم أفطروا على بصلة.
فشل السياسة الإقتصادية والإجتماعية
لم يكن لحكومة «الترويكا» برنامجاً اقتصادياً واضحاً بسبب تركيبة الحكومة غير المتجانسة والتي بنيت على أساس المحاصصة فكانت تَجْمَعُ اشتراكييين وليبيراليين وإسلاميين وعلمانيين وغيرهم.. ولتجاوز كل الإختلافات التي يُمكن أن تحصل بين مكوناتها اعتمدت الحكومة السياسة الإقتصادية التي كانت تتبعها حكومة قائد السبسي الإنتقالية عبر اعتماد نفس الميزانية التي أعدتها حكومته والتي كان أعضاء الحكومة الجديدة ينتقدونها من قبل ويرون أنها سبب فشل حكومة المرحلة الإنتقالية، لكنّهم لم يفعلوا أيّ شيء لتغييرها وقاموا بإعتمادها مع إضافة ميزانية تكميلية.
لم يكن اعتماد ميزانية حكومة قائد السبسي المشكل الوحيد بل أدت المحاصصة إلى تعيين وزراء على أساس القرابة والحزبية والولاء لأطراف مؤثرة في أحزاب «الترويكا» ممّا أحدث تصدّعاً وانشقاقات في الأحزاب المُكوّنة للحكومة وخلخل أداء الحكومة. كما لعب الخارج خاصة المال الخليجي دوراً كذلك في بعض اختيارات الحكومة عبر تولية بعض الشخصيات التي تدين له بالولاء على رأس بعض وزارات الحكومة التي كان من المُفتَرض أنّها قطعت مع سياسة المحسوبية التي كانت أحد أسباب سقوط نظام بن علي.
لم تستطع هذه الحكومة أن تفعل شيئاً يذكر حيال الملفات الحقيقية والكبرى التي كانت وراء ثورة الناس على نظام بن علي، وهي أولا البطالة، خاصة في صفوف أصحاب الشهادات، وثانيا الفاقة والحرمان التي كانت تعاني منها فئات واسعة من الشعب وثالثا عدم التوازن الجهوي الذي يجعلك إذا انتقلت بين محافظات الساحل وبين محافظات الجنوب الغربي تعتقد أنّك لست في دولة واحدة لها حكومة واحدة وعلم واحد. وأمام عجزها على تقديم حلول جذرية وحقيقية لمشاكل البلاد استمرت الحكومة في سياسة الترقيع بتقديم إعانات غذائية ومالية هنا وهناك وفي إطلاق الوعود والشعارات واتهام الداخل والخارج وإلهاء الساحة السياسية بجدال لا ينتهي حول قضايا تاريخية ودينية خِلاَفِيّة وتحويل الصراع من صراع مع منظومة اقتصادية واجتماعية فاشلة إلى صراع بين مؤمنين وكفار. واستمراراً لسياسة النعامة وسياسة الهروب إلى الأمام حاولت الحكومة احتواء الإعلام وتخوين بعض رموز الطبقة السياسية والنقابية الذين رفضوا محاولة احتكار السلطة للإعلام ونادوا بتغيير السياسات الإقتصادية والإجتماعية الفاشلة وكادت الأمور تصل إلى سياسة كسر العظم خاصة بين الإتحاد العام التونسي للشغل وبين الحكومة لتمسّك كل طرف بخياراته.
عقم سياسة الرهان على الخارج
كان كثير من قادة «الترويكا»، وخاصة قادة «النهضة»، يراهنون على دعم الإقتصاد التونسي من الخارج وخاصة المال الخليجي الذي كان يُعتقد أنّه سيتدفق على «دول الربيع» كمكافأة من الدول الخليجية الداعمة للتوجّهات «الإسلامية» في المنطقة، إلاّ أنّ الأمور لم تسر كما كان مأمولاً حيث قدمت قطر قروضاً محدودة بفوائد وبقي الأمر بالنسبة لبقية المنظومة الخليجية «طق حنك» ومجرد وعود في المؤتمرات والإجتماعات التي تعقد هنا وهناك.
بعد أن أخلف «الشيوخ» و«الإخوة» بوعودهم وخذلوا الحكام الجدد اضطرت الحكومة التونسية أن تتجه إلى الإقتراض من أوروبا ومن الصندوق الدولي ما يعني عودة الى المديونية من جديد. وكان سبب تراجع الحماس الخليجي والقطري أنّهم، أيقنوا أنّ تونس لن تكون بلدا مفتوحا «يشطحون فيه على كيفهم» وتأكّدوا من أنّ هناك معارضة ومجتمعاً مدنياً قوياً ومناهضاً بشراسة لسيطرة مال البترودولار على مقدرات البلاد وعلى مصيرها.
الحل: خياران أحلاهما مرّ
أمام تفاقم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية الخانقة ورفض المعارضة دخول حكومة مُوَسّعة واستمرار تشديد الإتحاد العام التونسي للشغل أن لا مساومة على زيادات الأجور ممّا سيُنهك الميزانية الحالية العاجزة أصلا ، مع استمرار مشكلة بطالة أصحاب الشهادات لم يعُد أمام الحكومة إلاّ خيارين أحلاهما مرّ، إماّ أن تستقيل لتتكون حكومة تكنوقراط (غير حزبيين) جديدة كما إقترح رئيس الدولة المرزوقي، ما يعني فقدان «الترويكا» للوزارات السيادية وهي مقبلة على انتخابات هامة، أو استمرارها في الحكم ممّا يعني تزايد المشاكل وتناقص شعبيتها ممّا يُنذر بدخولها في صدامات مع الشارع الغاضب. فأيّ المصيرين ستختار حكومة «الترويكا»؟
Leave a Reply