لم تكُن هناك مِن طقوسٍ متعدِّدة أو متغيِّرة للمقهى فهي ثابتة.. تتوزّع على مساحةِ أرضيّتِها التخوتُ الخشبيّة المتهالكة، تنتصبُ بين كلِّ تختَيْن متقابِلَيْن منضدةٌ هي الأخرى خشبيّةٌ ومتهالكةٌ أيضاً يتّسعٌ سطحُها المستطيل لحركةِ لعبةِ الدومينو أو ورقِ الآس أو الطاولة ذات النردَيْن والثلاثين حبّة دائريّة الشكل وهناك طاولات دقيقة الأرجل سطحُها شبرٌ مربّع توضعُ عادةً أمام غيرِ الممارسين لأيِّةٍ مِن تلك اللّعَب والتي سرعان ما يتلألأ في وسطِها «إستكانُ الشاي» المزروع وسط صحنِهِ الصغير يتصاعدُ مِن فوّهَتِهِ البخارُ المرئيّ كما يتصاعدُ البخارُ غير المرئيّ من صدورِ الأدباء يسارعُ إلى تقديمِهِ أبوداود نادلُ المقهى المخضرم والشخصيّة الشعبيّة التي احتلّتْ مكانتَها المحبّبة في تراثِ بغداد وقلوبِ مرتادي المقهى، أيّةُ ذاكرةٍ باستطاعتِها المغامرة في نسيان أبي داود؟ لقد كان تراثاً كاملاً يتنقّلُ بين التخوت وفي يدِهِ شجرة مِن صحون وأقداحِ الشاي دون أنْ يختلَّ توازنُها مرّةً إذ لمْ يحدث وأنْ سقطْ منها ولو قدحٌ واحدٌ طيلة عقودِ عملِهِ في المقهى.
إن الذي تغيّرَ فيه هو انجراد أرضيّتِهِ من السجاجيد الكاشانية والتبريزيّة التي كانت تزهو تحت أقدامِ الروّادِ شبيهي الأرستقراط، فبل أنْ يحتلَّها الشبابُ الآتين من إرث الحداثة ومن دخان الحروب ومحن الحصار.
ليستْ هنالك من أصواتٍ تعلو سوى مايصدر من فمِ صاحبِها العزيز أحمد: «تعال جيب أربع جايات إهنا» في إشارةٍ إلى فرضِها قسراً على متحلِّقي أيٍّ من ممارسي اللُعَبِ اللواتي أشرنا إليها إذ أنّ قانونّ المقهى الإقتصادي يفترض تجديد الطلب على شرب الشاي حال ابتداء كلّ شوط مِن تلك اللُعَب، وكيف يمكن الإلتزام بقانونٍ يفرغ الجيوبَ على خوائها؟
وكان صوتُ أحدِ مرتاديها يعلو هو الآخر محتجّاً على بعضِ مشاكسيه: جاسوس، دون انْ يتضمّنَ ذلك أيَّ تأويلٍ لأيِّ حدث.. بل فقط لأجلِ التندُّرِ والمشاكسة، كان بائعاً جوّالاً للسمك يرتدي من الملابس الزيتونية والقبعة ذات الشرفة العلوية الناتئة إضافةً إلى إطالتِهِ شعر لحيتِهِ ممّا يجعل مِنْ هيئتِهِ شبيهاً بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو رغم فارق الحجم في جسمَيْهما إذ تغلب عليه النحافةُ وقصر القامة على عكس الأخير. وممّا يزيد في غرائبيّتِهِ تزيين صدرِهِ بالأوسمة والنياشين المزيَّفة.
في تلك الفترةِ كان القاص عبدالستار ناصر قد كتبَ قصةً قصيرةً عن الشاعر رباح نوري أثارتْ إعجابّهُ قبل الجميع..ذلك الشاعر النحيل كخيطٍ مِن منديلِ عريس، يكفيني لطغيانِ حضورِهِ الدائم في ذاكرتي قبل حضورِهِ الدائمِ في المقهى أنْ تتداعى من فيضان الحنين إلى الأيّام الميِّتة التي لمْ تمارسْ بهجةَ الحياةِ إلاّ بين أوساط الأدباء… أصدقائي أولئك ذواتِ الخلق المتوارث من سجايا الأنبياء. هنا أنشرُها لأوّلِ مرّة:
Leave a Reply