ما علق بالشعر من أوهام عبقر والأولمب أتاح لمن حاولوا التحليق بأجنحة شمعية كما فعل ديدالوس في الأسطورة الإغريقية أن يحلموا بجمهورية مضادة لتلك اليوتوبيا الأفلاطونية التي طرد منها الشعراء.
لكنّ مقاومة جاذبية الواقع بكلّ فظاظته وأنيابه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية ليست متاحة إلاّ في الخيال، والخيال ليس دائماً ضدّ الواقع، إنه احياناً واقع بالغ التركيز كما يقول إرنست فيشر، والشعرية العزلاء من وعي العالم وشروطه قد تنعم بحرية الهذيان والإنعتاق، لكنها تكتشف بعد فوات الأوان أنها مجرد صور لأشياء العالم لكنها ليست العالم، فالوردة كما الحجر كانا قبل ان يحملا أسماء، وسوف يمكثان في الوجود حتى لو خلعت عنهما الأسماء، لأن التسمية ليست اجتراحاً للخلق من العدم بل هي تصنيف قد يكون اجرائياً لتسهيل التعامل مع موجودات الكون.
والمرادف لما أسميه الإقامة في القصيدة هو ما سمّي الشعر الصافي، على الأقل بالتعريف الذي قدّمه بول فاليري لهذا الشعر، وكان قد انقطع عن الكتابة عشرين عاماً كي يحرّر شعريته من شوائب اللاشعر وقد يكون من سوء حظ الشّعر أنّ قماشته وأداته هي الكلام، والكلام يستخدم لتلبية حاجات أو للتواصل في حدّه الأدنى ممّا يدمغه بالنّفعية، وهي النقيض لمجانية الشعر التي هي في الصميم منه، لهذا كان الشاعر إزرا باوند يقول اذا سألت شخصاً ما عمّا يريد قوله، وعبر عن ذلك شعراً فهو مجرد ناظم وصانع، ومفهوم صناعة الشعر بالنسبة لهذا الشاعر يختلف عن التعريف التقليدي لهذا المصطلح على الأقل في موروثنا البلاغي، وربما لهذا السبب أهدى اليوت قصيدته «الأرض الخراب» إلى باوند بعبارة ذات دلالات غير تقليدية هي إلى الصانع الأمهر…
والشعر لم يعد غاباتٍ بكْراً، بعد ان اصبح مثقلا بهذه التجارب والخبرات التي تمتد لآلاف الأعوام، فهو بناء ومعمار ووعي عابر للّغة بحيث لا تصبح المعرفة عناقيد متدلية على صدر القصائد بقدر ما تتحول إلى شحنة كالبرق، واذا كانت الإحالات والهوامش المعرفية لقصيدة كالأرض الخراب لإليوت تنافس عدد أبيات القصيدة، فذلك تعبير عن الانتقال بالشعرية من البراري الطليقة، إلى معمار، وهذا ما نقل النقد من الفقه إلى العالم بحيث لم يعد الناقد مجرد شارح للنص، يتغذى حتى باسلوبه على مفرداته بحيث يفقره من حيث يظن انه يثريه، والنقد الفقهي للشعر هو ما دفع ناقداً معاصراً إلى القول بأن الشاعر يتعامل مع مجرى النهر وليس مع الحصى الهاجع في القيعان، اما المحاولة الباسلة رغم استحالتها الواقعية فهي إصرار الشاعر على عبور النهر عدة مرات وليس مرتين فقط كما يقول هيراقليطس. وفي أدبنا العربي الحديث، رغم اشكالية مصطلح الحداثة والتباساته، غالباً ما تعامل فقه النقد مع الحصى الهاجع في القيعان، كما انه لم يغامر بالتحليق بعيداً كما يفعل النّحل الدؤوب لهذا لم تكن حصيلته من الشهد قابلة لأن يعتدّ بها وثمة حالات عديدة كان النّحل النقدي الكسول والقاصر معلوفا بالسّكر المطحون وليس برحيق الزهور. وهناك مئات الأمثلة من نقد فقهي وداجن ألحقَ الأذى بنصوص عصية على ادواته فهو يعاني من تناقض بين الوسائل والغايات وقد يشرّح فراشة بساطور او سيف لكنه يشرّح فيلاً او بعيراً بإبرة خياطة، لنتصور مثلاً انّ ناقداً عربياً اكاديمياً يكتب عن قصيدة لشارع معاصر بأنها قصيدة القصائد في ديوان الدواوين، وهذا التصور ليس ضرباً من التخيّل بل عبارات وردت في كتاب نقدي، تتلمذ على خرافة تتلخص في أجمل بيت شعر قاله العرب في المديح أو الغزل أو الرثاء، وهذه الخرافة المنقطعة تماماً عن النقد باعتباره افرازا معرفيا وحضاريا تنسجم مع ثقافة باترياركية وهرمية، تبحث باستمرار عن الزعيم الأوحد والشاعر الأوحد وأخيراً بيت الشعر الأوحد.
الإقامة في قصيدة هي الإقامة في المسافة بين فاتحة وخاتمة، وهذا ما عبّر عنه كافافي عندما قال ان الطريق الى مدينة ايثاكا أهمّ وأبهى من بلوغها، وثمة قصيدة لبرخت رغم واقعيته المعروفة عن مدينة بيلارس الأشبه بايثاكا اليونانية، لكن مدينة برخت التي يقال بأنها تشفي الأبرص وتحقق الوصال ويعيش فيها الناس الى الأبد اصابها الزلزال… ولأن الشعر الحديث في العالم كله والجدير بهذا التصنيف على صعيد الرؤى والوعي غادر اطلال الرومانسية فلم تعد الأبدية هي حلم البشر الفانين، وما كتبه اليوت عن سيبيل العجوز التي حلمت بالابدية يصلح مفتاحاً ذهبيا لهذا القفل الذي انكسرت في ثقبه عدة مفاتيح، سيبيل حلمتْ بالابدية وغاب عنها ان تطلب الصحة والشباب الخالد، لهذا انتهت الى كومة جلد وعظم في قفص يتحلق حوله الاطفال وهي تبكي حنيناً الى الموت لكنها لا تموت، فالابدية تصبح عقاباً اذا لم يكن لدى الكائن وعي بالشروط التي تحاصره، ومنها الشرط العضوي، او ما يسميه اندريه مالرو الوضع البشري.
لا أجد فرقاً كبيراً بين شهوة كافافي للإقامة في الطريق او المسافة وبين تمنُّع الشاعر العربي العذري عن تحقيق الوصال، فهو يصطنع العقبات كي تحول دون عناقه لمن يحب، وكما يقول جميل بثينة يموت الهوى منه إذا التقى بالحبيبة، لكنه يحيا إذا فارقها، إنه حب يتغذى من الحرمان بل يسعى إليه بهدف التوتير والحفاظ على شحنة الشعر التي تتبدّد في الاشباع، وهذا ما تنبه اليه دينيس دو رجمون الفرنسي في كتابه «الحب والغرب» ثم توقف عنده مطوّلاً صادق العظم في كتابه عن الحب العذري.
القصيدة بهذا المنظور هي ذاتها المسافة، ليس فقط بين أول الطريق وآخره أو بين الرغبة والاشباع أو حتى بين جاذبية الواقع وسطوته وبين محاولات العصيان عليها. إنها تعبير عن صراع زمكاني بين هنا وهناك وهذا وذلك، وجسد العصفور وإسمه وشكل الوردة بما تتكون منه من عناصر الطبيعة وشذاها.
لقد خسرَ كثيرٌ من الشعراء الحياةَ والشعرَ معا، بسبب شحة الوعي، بحيث توهّموا ان القصيدة هي في لحظة ما تعويض عن النهار وإنّ تاءاتها المربوطة او المفتوحة هي تعويض عن نساء العالم، وتضخم الأنا المخذولة والمقهورة فيها هي بديلٌ لذاتٍ فقيرة. ربما لهذا السبب كان الشاعر الاميركي كمنجز يصرّ على كتابة اسمه بحروف صغيرة، كي يبلغ قارءَه بأنه ليس فريسةَ وهْمٍ رومانسي يجعل من سرطنة الذات وورمها محورا للكون وهي في حقيقتها مجرد نواة لثمرة مقضومة وملقاة على قارعة العالم.
ومن رواسب هذا الالتباس بين الإقامة في العالم والإقامة في النصّ انَ كثيراً من الشعراء صدّقوا اسلافَهم البلغاء عندما قالوا انه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، رغم ان المقصود بهذا الحق هو زحاف هنا او هناك وتجاوزات لغوية او نحوية لا تخلّ بالدلالة، صدّقوا أن من حقهم الخروج الشكلي عن المألوف واقترافه خيانات وأكاذيب وتسفيهاً لكل ضوابط العلاقات الانسانية، وبمقياس هؤلاء الذين خلطوا بين الكاتب والمكتوب، فإن شعراء من طراز سان جون بيرس و ت. س. اليوت واللورد بايرون ليسوا سوى كيانات ارستقراطية وتقليدية.
ان شهوة الاقامة في النصّ لا بد ان تنتهي إلى منفى بالغ القسوة كالذي نفي اليه الشاعر اوفيد، لأنها خسارة مزدوجة للنص والحياة معا.
Leave a Reply