بعد تسمية السناتور الديمقراطي جون كيري لتسلم حقيبة الخارجية الأميركية من هيلاري كلينتون، أعلن الرئيس باراك أوباما في مؤتمر صحفي، الإثنين الماضي، تسمية السناتور الجمهوري السابق، تشاك هايغل، لتولي منصب وزير الدفاع رغم الإعتراض الإسرائيلي، ومستشاره لشؤون مكافحة الإرهاب، جون برينان (خبير مكافحة الإرهاب)، لرئاسة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، ليحدد بذلك معالم إدارة ولايته الثانية وجدية الرئيس في التعامل مع ملفات السياسة الخارجية.
ويعتبر برينان، الذي اختاره أوباما خلفا لديفيد بترايوس على رأس الـ«سي آي أي»، من العاملين المخضرمين في الوكالة، كما أمضى السنوات الأربع الماضية في صياغة استراتيجية البيت الأبيض لمكافحة الارهاب. أما هايغل الذي أثارت تسميته حفيظة الإسرائيليين والجمهوريين الداعمين لسياسة القوة العسكرية في التعاطي مع الملفات الدولية، وهو ما يتناقض مع سيرة السناتور الجمهوري عن نبراسكا.
وقال الرئيس أوباما في مؤتمر صحفي بالعاصمة واشنطن «اليوم، يمكنني أن أقول لرجال ونساء «سي آي أي»، إنهم تحت قيادة جون برينان، فإنكم سيكون لديكم واحد منكم، يهتم بأمركم كثيراً، وسوف يناضل من أجلكم في كل يوم». وبرينان الذي عمل في الوكالة مدة 25 عاماً، هو خبير في شؤون الشرق الأوسط ويتحدث اللغة العربية التي درسها في الجامعة الأميركية في القاهرة، وقال للصحافيين رداً على سؤال حول أخلاقه المهنية «أنا لا أتغيب عن العمل». ولم يتمكن برينان (57 عاماً) من الحصول على منصب مدير الـ«سي آي أي» في العام 2009 بسبب دعمه لاستخدام «أساليب تحقيق معززة» في ادارة الرئيس السابق جورج بوش، وهي القضية التي ستعود للظهور مرة اخرى في جلسة المصادقة على تعيينه إضافة الى قضية الهجوم على القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي الليبية وما رافقه من «تقصير أمني فادح» حسب تقرير للكونغرس.
برينان رجل الإستخبارات القوي
ولم يتطلب تعيين أوباما لبرينان كنائب لمستشار الأمن القومي لشؤون الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في العام 2009 مصادقة مجلس الشيوخ، مما جنبه المساءلة من قبل الكونغرس.
وفي سيرته المهنية، تدرب برينان على العمل في الإستخبارات وترقى بسرعة ليصل الى منصب محلل عمليات مكافحة الإرهاب ومدير قسم الشرق الأدنى وجنوب آسيا في الـ«سي آي أي». وبحلول العام 1995 وصل الى منصب المساعد التنفيذي لجورج تينيت نائب رئيس الوكالة في ذلك الوقت والذي اصبح فيما بعد مديرها.
كما تولى برينان رئاسة قسم شؤون الشرق الاوسط في الـ«سي آي أي» في العام 1996، ثم عاد الى واشنطن في العام 1999 ليشغل منصب رئيس موظفي تينيت حتى العام 2001 ونائب المدير التنفيذي حتى العام 2003. وتوج عمله لمدة 25 عاما في الـ«سي آي أي» بمنصب المدير المؤقت للمركز القومي لمكافحة الإرهاب من العام 2004 وحتى آب (أغسطس) 2005.
وخلال هذه السنوات شهد برينان بنفسه الصراعات بين الـ«سي آي أي» والبيت الابيض بسبب المعلومات الاستخبارية التي سبقت الحرب على العراق والمتعلقة بمزاعم وجود أسلحة دمار شامل في هذا البلد وارتباط نظام صدام حسين بالإرهاب.
وترك برينان بعد ذلك العمل في الحكومة لسنوات قليلة حيث عمل في مجال الاستخبارات الدفاعية والأمنية قبل ان يقبل عرض أوباما ليصبح مستشاره لشؤون مكافحة الإرهاب. وفي العام 2009 ركز المدونون الليبراليون على تصريحات أدلى بها برينان في عدة مقابلات دافع خلالها على استخدام «أساليب التحقيق المعززة». وقال ان أسلوب «الإيهام بالغرق» الذي يعتبر تعذيباً، لا ينسجم مع القيم الاميركية ويجب حظره.
لكنه قال إن هذه الأساليب أثمرت عن الحصول على معلومات استخدمتها الـ«سي آي أي» ضد «إرهابيين حقيقيين». وقال إنها «أنقذت حياة الكثيرين. ودعونا لا ننسى ان هؤلاء هم الارهابيون القساة المسؤولون عن هجمات «11 أيلول» والذين لم يبدوا اي ندم على مقتل 3000 شخص بريء».
وفي مقابلات اخرى دافع برينان عن تسليم المعتقلين الى وكالات استخبارات أجنبية للتحقيق معهم رافضاً الاتهامات بأن الهدف من ذلك كان تجنب القوانين الأميركية التي تحظر التعذيب.
وبالنسبة لعمليات التنصت بدون إذن قال انه يجب تحقيق توازن بين ضرورة حماية المواطنين وحقهم في الخصوصية مضيفاً أن الجدل العام يجب أن يدور حول مسألة أين يجب أن يكون الخط الفاصل بين حماية المواطنين وخصوصيتهم.
وأثناء عمله مستشاراً لأوباما في مكافحة الإرهاب عمل برينان من أجل وضع تلخيص لسياسات البيت الأبيض حول عمليات القتل المستهدف بما في ذلك المبررات القانونية لضرب مشتبه بهم في اليمن وباكستان وغيرها من المناطق. وبعمله عن قرب مع الرئيس، سبق لبرينان أن أشرف من قبل على تصعيد الهجمات التي نفذتها الطائرات الآلية في باكستان عام 2010، كما كان المُخطِّط الرئيس وراء عمليات مكافحة الإرهاب التي نفذتها الإدارة الأميركية سراً في اليمن. والتساؤل الذي رأت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية أنه يواجه برينان، إن وافق عليه مجلس الشيوخ هو: هل وكالة الـ«سي آي أي» ستظل مُشارِكة بالعمليات شبه العسكرية السرية الأميركية، وبالأخص الهجمات التي يتم تنفيذها بواسطة الطائرات الآلية، أم أنها ستقوم بإعادة تطوير قدراتها الاستخباراتية التقليدية، التي يقول عنها قدامى الاستخبارات المخضرمون إنها ضمرت خلال سنوات المطاردات الإرهابية؟
وتدور تساؤلات كثيرة في واشنطن حول دور برينان في الوكالة، وإن كان سيجري تغييراً على وظيفتها وإلى أي مدى. ويطالب بعض المخضرمين في العمل الاستخباراتي بسحب ورقة تنفيذ عمليات الطائرات من دون طيار من يد الوكالة، وإعادتها إلى «البنتاغون»، وبالتالي تعود الوكالة وتركز على عملها الرئيسي في جمع المعلومات، لكن هذا الأمر قد يكون مستبعداً مع شخصية بقوة والتزام برينان.
هايغل.. جمهوري لا يحبه الجمهوريون
وإذا كان برينان سيأخذ نصيبه من انتقادات بعض أعضاء مجلس الشيوخ خلال جلسة التصوبت على تعيينه وذلك لدعمه تعزيز تقنيات التعذيب خلال التحقيقات، خصوصاً في معتقل غوانتانامو. فمهمة السناتور الجمهوري هايغل (66 عاماً) ستكون معقدة جداً حتى ينال ثقة الكونغرس لتولي وزارة الدفاع (البنتاغون) لاسيما في الانتقادات الإسرائيلية بالرغم من محاولته «تبييض» صفحته الإسرائيلية، نافياً أن يكون في سجله ما يثبت أي عداء لإسرائيل، رغم تصدّىه لإدراج «حزب الله» كمنظمة إرهابية ومواقفه التي ترى في إيران حليفاً مستقبلياً.
أما الرئيس أوباما، وفي إعلانه عن ترشيح هايغل، فقد وفر له دعماً معنوياً استباقياً بوصفه «قائداً تستحقه قواتنا» وبأنه أول جندي وأول مصاب خلال حرب فيتنام يقود «البنتاغون». كما حرص أوباما على الإشارة إلى أن هايغل يدرك أن «الحرب ليست فكرة مجردة. نحن نذهب إلى الحرب فقط عندما يكون الأمر ضرورياً».
باختيار هايغل، يعود أوباما إلى جذور حملته الرئاسية الأولى، أي رفض كل رهان عسكري غير محسوب أو محسوم النتائج. وباختيار هايغل، يؤكد أوباما مرة أخرى قربه من مدرسة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب التي منها خرج روبرت غيتس الذي لا تزال بصماته ترسم اتجاه «البنتاغون» اليوم. هايغل يأتي ضمن هذا الخط العريض من الشخصيات الجمهورية التي قررت أن تغرد خارج السرب منذ جنوح إدارة المحافظين الجدد بعد هجمات «11 أيلول» العام 2001. ويمثل هايغل اليوم الحرس الجمهوري القديم، كما أنه يعبّر عن الجو العسكري والاستخباراتي في واشنطن حيال رفض التدخل العسكري، أو بالأحرى رفض الحرب التي تشن بخيار سياسي. ولذلك يوجد نوع من التذمر داخل هذا الجو حيال محاولات جر واشنطن إلى مواجهة مع إيران لإرضاء حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. حتى أن وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس أعرب عن تذمره من هذا الأمر قبـيل تقــاعده السياسي، مشيراً إلى أن إدارة أوباما قدمت كل الضمانات لإسرائيل ولم تحصل على شيء في المقابل.
ومن أبرز تصريحات هايغل، التي تقلق البعض في واشنطن، ما قاله خلال جولة في الشرق الأوسط في 27 آب العام 1998، ومن بينها «الرجال اليائسون يفعلون أموراً يائسة حين يأخذ الأمــل بعيــداً عنهم. هذا حال الفلسطينيين اليوم». فُسّر كلامه حيــنها على أنه يبرر عمليات الفلسطــينيين ضد الاحتــلال الإسـرائيلي.
ونقل الباحث أرون ديفيد ميلر عن هايغل قوله إلى احد العاملين في مجموعات الضغط الأميركية لمصلحة إسرائيل، «أنا سناتور أميركي. أنا لست سناتوراً إسرائيلياً»، مضيفاً «أنا ادعم إسرائيل لكن مصلحتي الأولى هي إنني احلف اليمين على دستــور الولايات المتحدة وليس لرئيــس أو لحــزب، وليــس لإسرائيل».
كما تذمر هايغل لميلر من تصرفات اللوبي الإسرائيلي في أميركا «آيباك»، فهي توزع عريضة، وفجأة يوقع عليها بين 80 و90 سناتوراً. وتابع قائلا «حين يتهمني احد بأنني لست موالياً لإسرائيل لأنني لم أوقع الرسالة، أقول إنني لم أوقع الرسالة لأنها غبية». وقد أكد هايغل الأسبوع الماضي «دعمه الكامل» لاسرائيل بعد تعرضه لانتقادات اعضاء جمهوريين في الكونغرس على خلفية مواقف له من قضايا الشرق الأوسط. وقال لصحيفة محلية في نبراسكا «ليس هناك أي دليل على انني مناهض لإسرائيل».
وقللت وسائل الإعلام الإسرائيلية من تأثير اختياره لتولي «البنتاغون» على العلاقات مع الولايات المتحدة، وخصوصاً على خلفية اتخاذه مواقف اعتبرت مناهضة لإسرائيل. واعتبر المعلق في القناة الثانية الخاصة في التلفزيون الاسرائيلي إن «باراك أوباما لم يختر تشاك هايغل بسبب آرائه حول إسرائيل، والرئيس لن يمارس سياسته حيال إسرائيل بحسب مواقف تشاك هايغل».
ويرى المراقبون أن إسرائيل ليست قلقة من التعيين حتى وان انتقدته، هي فقط تريد أن تسمع من الوزير الجديد التزامه بمعايير «الصداقة» أكثر من مرّة.
أما الجمهوريون فيعبرون بوضوح عن معارضتهم لقرار ترشيح هايغل ملوحين بمعركة حامية بالرغم من أنه ينتمي إلى الحزب الجمهوري، إلا أن ابرز قيادات الحزب تأخذ عليه عدم إبداء دعم ثابت لاسرائيل والاعتراض على العقوبات المفروضة على طهران ما ينذر بمعركة من أجل تثبيت تعيينه، ولكن من غير المعتاد أن يرفض مجلس الشيوخ تعيينات رئاسية في مناصب وزارية ويحظى الديمقراطيون حاليا بغالبية حاسمة في مجلس الشيوخ.
وكان السناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام قال لشبكة «سي أن أن» إن هايغل «سيكون وزير الدفاع الأكثر عداء لاسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة»، معتبراً أن ترشيحه «خيار مثير للجدل». وأضاف «لم يقل فقط أنه يجب التفاوض مباشرة مع ايران وأن العقوبات لا تعطي نتيجة، إنما قال أيضا إن اسرائيل يجب أن تتفاوض مع «حماس»، وهي منظمة ارهابية تطلق آلاف الصواريخ على اسرائيل» بحسب قوله.
وتابع غراهام «أنه كان هايغل أيضاً بين 12 عضواً في مجلس الشيوخ رفضوا توقيع رسالة موجهة الى الإتحاد الأوروبي من أجل إدراج «حزب الله» اللبناني على لائحة المنظمات الارهابية».
وبدوره قال السناتور الجمهوري جون كورنين من تكساس إنه سيعارض تعيين هايغل لأنه «سيكون اسوأ رسالة يمكن أن نبعث بها الى صديقتنا اسرائيل وبقية حلفائنا في الشرق الاوسط».
ويتولى هايغل حالياً رئاسة مجلس المعلومات التابع للبيت الأبيض بعد أن مثل نبراسكا (وسط) في مجلس الشيوخ من 1997 الى 2009. وهو أيضاِ من قدامى المحاربين في فيتنام وحاصل على عدد من الأوسمة الرفيعة. ومن المعروف عن هذا الجمهوري المعتدل أنه كثيراً ما كان يعارض مواقف حزبه في مجال السياسة الخارجية منتقداً بصفة خاصة استراتيجية الرئيس السابق جورج بوش في العراق.
وفي سيرته، ولد هايغل في ولاية نبراسكا عام 1946 لأب من أصول إيرلندية وأم من أصول بولندية، وتخرج من جامعة الولاية بعد حصوله على شهادة في التاريخ. وعمل في بداياته صحافياً في إذاعة محلية في أوماها، ثم انتقل إلى مجال الأعمال الخاصة حيث أسس شركة اتصالات صغيرة جنى من ورائها ثروة، لكن سرعان ما استهواه العمل السياسي فخاض غماره وهو ما يزال في بداية شبابه. وكان هايغل بعد إندلاع حرب فيتنام عام 1955 قرر التطوع في صفوف الجيش الأميركي وقد حصل على وسامين عسكريين من نوع «القلب الأرجواني» بسبب شجاعته في الخدمة هناك التي حولته الى رجل مناهض للحروب بشكل عام. ففي كتاب يروي سيرته الذاتية كتب هايغل «إذا ما تمكنت من الخروج سالماً من حرب فيتنام، سأبذل جهدي من أجل منع الحروب».
ومن جملة المواقف التي تثير إنتقاد زملاء هاغل الجمهوريين قبل الديمقراطيين رفضه فرض عقوبات على الدول التي صنفها بوش ضمن «محور الشر» وهي إيران وكوريا الشمالية والعراق آنذاك، بالإضافة إلى انتقاده الشديد لوزارة الدفاع الأميركية التي وصفها بـ«المترهلة» عام 2011 قائلاً إنها بحاجة إلى «التقليم».
وسيأتي هايغل إلى «البنتاغون» مع تحديات رئيسية، لا سيما التعامل مع تقليص ميزانية البنتاغون بحوالي 500 مليار دولار خلال عشرة أعوام، وهذا عمل متواصل داخل البنتاغون من شأنه أن يحول الجيش من الحرب التقليدية إلى عمل ميداني أكثر مرونة وسرعة، لا سيما من قبل القوات الخاصة. دعم هايغل علناً في السنوات الأخيرة تقليص الترسانة النووية الأميركية إلى 80 بالمئة، مما يوفر على الخزينة حوالي مئة مليار دولار خلال عشر سنوات.
Leave a Reply