خلال الأشهر القليلة المقبلة، سيكون العالم العربي منشغلاً بجملة من المشاكل التي تتطلب اهتماماً عاجلاً، وفي مقدمتها الأزمتان المتواصلتان في سوريا وفلسطين، اللتان تقترب كل واحدة منهما بسرعة من «نقطة اللاعودة». غير أنه بدلاً من الوقوف موقف المتفرج، أو المساهمة في استمرار النزاع، أو انتظار الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة لتأتي بحلول، هناك بعض الخطوات العملية الممكن اتخاذها من خلال العمل العربي المشترك التي قد تُحدث فرقاً حقيقياً.
إن المأساة المتواصلة في سوريا ستظل في واجهة الأحداث لأشهر عدة مقبلة، في وقت يبدو فيه كل من النظام والمعارضة مصممين على مواصلة «الرقص حتى الموت». ولذلك، ينبغي أخذ تحذيرات المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي في عين الاعتبار لأنه إذا لم يتم إيجاد حل سياسي، فإن الوضع لن يزداد إلا سوءاً. ذلك أنه مع ازدياد يأس النظام ووحشيته، وتحسن تسلح المعارضة وفقدانها السيطرة على بعض عناصرها، فإن المستقبل يَعد بزيادة معدل الإصابات وتعميق العداء الطائفي.
وقد وضع الإبراهيمي مخططاً يقترح فيه عملية سياسية تُبعد الحكومة عن هيمنة الحزب الواحد. وقد وكل الروس بمسؤولية جلب النظام إلى طاولة المفاوضات، وعلى الدول العربية الرئيسية أن تتولى أيضاً مسؤولية موازية وتضغط على المعارضة حتى توافق على عملية انتقال سلمية. ولكن حتى الآن، يرفض زعماء المعارضة بحث أي شكل من المفاوضات أو الحلول الوسط مع النظام. ولئن كان غضبهم من نظام الأسد وارتيابهم فيه أمراً يمكن تفهمه، فإن رفض التسوية وانتظار فوز حاسم أمر لا يعكس حس المسؤولية مثلما أنه لا يمثل استراتيجية صائبة سياسياً. وبالنظر إلى واقع كيان سوري مقسَّم، فإن حلا وسطاً ومقاربة انتقالية للتغيير هما الطريق الأكثر حكمة إلى الأمام على ما يبدو.
والحل الذي يتصوره الإبراهيمي لن يقدم انتصاراً واضحاً وقاطعاً لأي جانب، ولكنه سيوقف إراقة الدماء وسيعبد الطريق لحل سياسي يمكن أن يجلب تغييراً حقيقياً ويضع حداً لحكم نظام الأسد السلطوي. والدول العربية لديها نفوذ هنا نظراً لأنها تمول المعارضة وتسلحها وتدعمها. وبدلا من المساهمة في استمرار النزاع، يتعين على الدول العربية أن تستعمل تأثيرها على حلفائها في سوريا في تزعم الجهود الرامية لإنهاء القتل والتدمير، قبل أن ينهار البلد ويتفتت أو يمتد العنف عبر الحدود ويزعزع استقرار منطقة هشة أمنياً أصلاً.
وهذا لن يكون سهلاً بدون شك؛ ولكن ذلك يمثل أقل نتيجة لفظاعة عامين من حرب لن تزداد في المحصلة إلا سوءاً مع الوقت. والحل الوسط سيتطلب زعامة لا يستطيع توفيرها سوى العرب هذه المرة.
ثم هناك مجال آخر يتعين على زعامة المنطقة أن تلعب فيه دوراً نشطاً وداعماً أيضاً، ويتعلق بالجهود الرامية إلى التوصل لسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فالوضع الفلسطيني كان مأساوياً تقريباً قبل أربع سنوات ولم يتحسن منذ ذلك الوقت، إذ ما زال البيت الفلسطيني في حالة تفكك بالنظر إلى حالة الانقسام المادي والآيدولوجي بين الزعامتين في الضفة الغربية وغزة. فغزة، تحت سيطرة «حماس»، ما زالت تعاني الاختناق جراء حصار قمعي جائر. والضفة الغربية نفسها تتعرض للخنق ببطء جراء توسع الاستيطان الذي لا يتوقف، ومئات نقاط التفتيش المعيقة والمهينة، وجدار قمعي يلتف داخل الأراضي الفلسطينية وحولها.
والطريقان الفاشلان اللذان اختارهما الفصيلان الفلسطينيان كل منهما تشوبه عيوب، على رغم أنهما متناقضان. فـ«حماس» لا تؤمن إلا بـ«المقاومة» التي لم تجلب سوى الموت والمعاناة للفلسطينيين، وانعدام الأمن لإسرائيل، وتصليب السياسات الإسرائيلية المتشددة. وفي هذه الأثناء، فإن التزام السلطة الفلسطينية بالدبلوماسية والمفاوضات، لئن كان يستحق الإشادة، إلا أنه أضحى عديم الجدوى نظراً لأن التفاوض من دون أن يكون لك نفوذ وأوراق قوة يصبح ممارسة فارغة لا معنى لها.
وفي غضون ذلك، تواصل الحكومة الإسرائيلية المتشددة، المصممة على استمرار الاحتلال، التصرف بدون خوف من العقاب. فقد أصبح خطاب اليمين المتطرف في إسرائيل هو السمة الغالبة على الحياة السياسية الإسرائيلية، في حين انهار «معسكر السلام».
وإذا ظلت هذه الدينامية مستمرة بدون كابح، فإن أحد أمرين سيحدث، وبسرعة: فإما أن إسرائيل ستكمل مخططها للهيمنة المادية على الضفة الغربية والاستحواذ على القدس بالكامل -ما يجعل التقسيم إلى دولتين- أمراً مستحيلا، أو سيكون ثمة تجدد للعنف مع ما ينطوي عليه الأمر من عواقب مدمرة.
ومع ذلك فإن استطلاعنا الأخير للرأي في إسرائيل وبين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية واللاجئين في الأردن ولبنان يشير إلى أن السلام ما زال ممكناً. فالجمهوران، وعلى رغم انقسامهما حول العديد من المواضيع، يبديان نقاط التقاء مهمة. والمطلوب بالتالي هو رؤية تستطيع التأثير في الرأي العام والزعامة السياسية. غير أن هذا لن يأتي من الولايات المتحدة أو إسرائيل، كما أنه لا يمكن أن يأتي من الفلسطينيين. ولكن الدول العربية الرئيسية تستطيع توفير زعامة يمكن أن تحوِّل الدينامية وتغيِّر الرأي.
وأولى الأولويات يجب أن تكون تحقيق مصالحة فلسطينية، وتشكيل حكومة فلسطينية موحدة وفعالة تستطيع أن تحظى بالدعم الشعبي واحترام المجتمع الدولي. ولكن ذلك سيتطلب أكثر من إعادة إحياء اتفاق مكة. فحتى الآن، كانت جهود المصالحة العربية تركز حصرياً على المسائل السياسية، مع تهديدات جوفاء بالعقوبات ضد الطرف الذي يشوش على التطبيق. والحال أنه بدلاً من التهديدات، يتعين على الزعامة العربية أن تخلق حوافز من أجل قبول ما يتم الاتفاق عليه.
إن تشجيع انتقال سلمي في سوريا، ومصالحة فلسطينية، وسلام شامل في الشرق الأوسط لن يكون سهلاً بطبيعة الحال. وإظهار الزعامة، وإحداث فرق، وتغيير في مسار التاريخ، لن يكون أبداً سهلاً كذلك.
Leave a Reply