خلال الفترة التي سبقت إعلان أوباما، كان ثمة نقاش محتدم حول إمكانية ترشيح السناتور السابق تشاك هايغل وزيراً للدفاع. فأحياناً كانت الهستيريا تستبد بمناوئيه فيشنون عليه هجمات قاسية جداً. وهكذا، اتهموه بأنه غير مؤيد لإسرائيل بالقدر المناسب أو غير صارم بما يكفي بخصوص إيران. ولكن، ومثلما هو الحال عادة، فقد بدأ خصوم هايغل يصعّدون اتهاماتهم ويزايدون عليه عبر الزعم بأنه معاد للسامية أو «مدمن على الحوار على نحو مهووس» مع الحركات الإسلامية المتطرفة.
والأكيد أن شخصيات وازنة في مؤسسة السياسة الخارجية دافعت عن هايغل بقوة رغم الهجمات الشرسة التي صدرت عن شخصيات نافذة في تيار المحافظين الجدد والمجموعات اليمينية الموالية لإسرائيل بالخصوص، إلا أن أوباما بادر بترشيح هايغل بالفعل لمنصب وزير الدفاع.
والواقع أنني أعرف هايغل، وأعرف أنه مدافع هادئ ورزين عن المقاربة الواقعية للسياسة الخارجية. وأولويته كانت دائماً هي الدفاع عن مصالح أميركا في العالم عبر الدبلوماسية، ثم فقط عندما يصبح ذلك ضرورياً، عبر إرسال قوات أميركية في مهمات قتالية للدفاع عن تلك المصالح. وهو يتميز بنفور طبيعي من السلوك المتهور المستند إلى الإيديولوجيا حيث عُرف بانتقاده للحرب في العراق، ومعارضته للاستعمال المتهور للقوة عموماً، وانتقاده للأعمال الإسرائيلية. كما عرف برفضه المشاركة عندما كان في مجلس الشيوخ في ممارسات تروم إرضاء لوبي «آيباك»، حيث قاوم توقيع «الرسائل الغبية» للوبي المؤيد لإسرائيل، مثلما سماها.
والواقع أنه كانت ثمة لحظات توقعتُ فيها أن تتفادى الإدارة مزيداً من الصراع مع الجمهوريين عبر التخلي عن هايغل والانتقال بدلاً من ذلك إلى اختيارٍ «أكثر أماناً» سياسياً لمنصب وزير الدفاع. ولكن أنْ يقدم الرئيس دعماً قوياً لـ هايغل ثم يمضي قدماً في ترشيحه، فذلك مؤشر جيد جداً. غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد بكل تأكيد.
فالجمهوريون يرون إمكانية لإضعاف الرئيس وإلهائه أكثر عبر «ضرب» مرشحه، حيث سيُخضعون هايغل على الأرجح لمساءلة صعبة عندما يمثل أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ من أجل المصادقة على تعيينه. وستركز أسئلتهم بدون شك على دعمه لإسرائيل ومواقفه تجاه إيران حيث سيحاولون حمله على الاستسلام وإرغامه على استعمال اللغة نفسها الموجودة في رسائل «آيباك» التي رفض توقيعها عندما كان في مجلس الشيوخ. وسيرغبون في أن يُظهر أنه أكثر التزاماً تجاه إسرائيل وأكثر تشدداً بخصوص إيران مما كان عليه في الماضي.
ولئن كنتُ بكل تأكيد آمل ألا ينهار هايغل تحت الضغط، إلا أنني أحضر نفسي لقدر من خيبة الأمل. ولئن كنتُ أعتقد أن الرئيس ملتزم بمرشحه وسيدافع عنه، فإنني مستعد أيضاً للاعتراف بأن المصادقة على تعيين هايغل ليست أمراً أكيداً.
إن الخطر يتعدى إسرائيل أو إيران بكثير بالنسبة للجمهوريين. ذلك أنه يتهدد مشروع المحافظين الجدد برمته الذي أدى بالولايات المتحدة إلى حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق، ويجعلهم يواصلون الدفاع عن تدخلات عسكرية أكثر شراسة في سوريا وإيران. وذلك لأن فريق أمن قومي أميركي يقوده جون كيري وهايغل لن يكون أكثر تطابقاً وانسجاماً مع رؤية أوباما للعالم فحسب، وإنما سيتيح أيضاً إمكانية الابتعاد بشكل كبير عن السياسة الخارجية التي روج لها المحافظون الجدد وتبنوها خلال العقد الماضي. وعلاوة على ذلك، فالمصادقة على تعيين هايغل ستفتح الباب أمام نقاش يتيح فرصة للواقعيين لوضع سياسة الأمن القومي الأميركي على قاعدة أكثر رزانة وأقل إيديولوجية. كما أن المصادقة على تعيين هايغل، ولاسيما إذا قاوم تبني لغة تُظهر إذعاناً لإسرائيل، ستمثل أيضاً تهديداً لسلطة اللوبي الموالي لإسرائيل لاستعمال الترهيب وإملاء الطريقة التي ينبغي أن يتصرف بها الكونغرس.
غير أن الأكيد هو أنه إذا تمت المصادقة على ترشيح هايغل، فإنه لن يكون ثمة تغيير جذري في مقاربة إدارة أوباما تجاه إسرائيل أو قبول أميركي لإيران ممتلكة للسلاح النووي. ذلك أن هايغل و«كيري»، وعلى غرار أوباما، هما من أنصار إسرائيل. والإدارة ستستمر في دعم المستلزمات الدفاعية لتلك الدولة، والأرجح أنها لن تتسرع في مبادرة سلام جديدة في الشرق الأوسط نظراً لأنها تعتقد على ما يبدو أن الظروف اللازمة للقيام بذلك غير متوافرة. وفي الوقت نفسه، ستواصل إسرائيل مواجهة الاستياء الأميركي المتزايد من احتلالها وسياساتها الاستيطانية. كما أن الإدارة لن توقف ضغطها على إيران حتى تصبح أكثر شفافية ووضوحاً بخصوص طموحاتها النووية وتتفق مع تشديد المجتمع الدولي على ضرورة تخليها عن عملية التخصيب عالي المستوى. غير أن إدارة أوباما ستتعزز الآن بفريق يدرك أن الإشراك، وليس المغامرات المتهورة، هو أفضل سبيل لحل المأزق، مع ضمان عدم جرنا إلى حرب كارثية أخرى ربما في الشرق الأوسط.
وفي هذه المرحلة نعلم أن الرهان كبير، ولكن ليست لدينا أي طريقة لنعرف المنحى الذي ستنحوه الأمور. فهل سينهار هايغل؟ وهل سيستسلم أوباما للضغط ويسحب مرشحه، مواجهاً خطر الهزيمة والحرج؟ أم هل سيرفض مجلس الشيوخ المصادقة على تعيين هايغل؟ الواقع أن أياً من هذه الأمور سيمثل انتكاسة كبيرة. ولكن من ناحية أخرى، إذا استمر هايغل على النهج نفسه، مؤكداً على دعمه لإسرائيل ومشدداً في الوقت نفسه على حريته واستقلاله في انتقاد السياسات الإسرائيلية عندما تستدعي الضرورة ذلك، وإذا قرر الديمقراطيون اختيار دعم رئيسهم بدلاً من الخضوع للوبي وضغوط المحافظين الجدد، فإننا قد نكون في تلك الحالة في طريقنا نحو بيئة سياسية صحية أكثر تنتصر فيها الواقعية على الإيديولوجيا، وتتسنى فيها مناقشة الخلافات السياسية في بلدنا بدون خوف. إن الرهان كبير، ولكن النتيجة غير أكيدة!
Leave a Reply