في ضحى ذلك اليومِ الصيفيّ القائض مِنْ عام 1997 غادرْتُ البيتَ مُتَوَجِّهاً إلى أين؟ ليْسَتْ هنلك مِنْ وُجْهةٍ مُحَدَّدَة، كان السكّانُ يتجمْهرون تحتَ مِظلّات مصلحةِ نقلِ الرُكّابِ أوْ تحتَ لافتاتِها في العَراء عندَ مناطقِ وقوفِها، حتّى إذا قّدِمَ الباصُ مُتَبَخْتِراً إنْحَشَروا فيه.. إنَّهُ الزُحامُ المؤْرِّق الذي تشعُرُ فيه وكأنّكَ داخل حمّامٍ شعْبِيّ شتْويّ، أمّا السيّارات الأهليّة مِنْ نوع «تويوتا» ذات الثمانية والعشرين راكِباً فكانتْ تَمُرُّ دونَ توَقُّف، حيثُ تمْرِقُ مشْحونَةً بكامِلِ مقاعِدِها بالرُكّاب، إنَّ الوجهَ الآخرَ مِنْ هذا المشْهدِ يعْنيْ معاناة الإنتِظارِ الطويل المُقْلِقِ والمُقْرِف، لكنّ غالِباً ما كانتْ تخْدِمُنا المُصادَفاتُ لِتُسْعِفَنا في الدنيا الصغيرة لِلْتَنَقُّل وهي- لِتَكْرارِها- تكادُ لا تُحْصى، إذْ غالِباً ما يسْتَديرُ سائقُ إحدى تلك السيّارات مِن اتِّجاهِ السَيْرِ المقابلِ باتِّجاهِ جمْهَرَتِنا دون أنْ يُواصلَ رِحلَتَهُ إلى مرآب تجَمُّعِ السيّارات القابع في نهايةِ الخطّ لِيَبتَلِعَنا حوضُ مركبَتِهِ بجمْهَرَتِنا تارِكَةً المجالَ لِكُتْلَةٍ بشَرِيّةٍ أخرى منطَلِقَةً بنا إلى فوضى المِرْآبِ العام في باب المعظّمِ.
إنّها فوضى النقلِ العام إزاءَ التعَمُّد اللّئيم مع سَبْقِ الإصرار على إهمالِ التخطيط في بلَدِ العقولِ التخطيطيّة الإختصاصيّة التكنوقراطيّة المُغَيَّبَة والمُقْصاة.
ما بيْنَ مرآبِ بابِ المعظّم العام وبين الفوضى الأخرى لعَشْوائيّة السوقِ الشعبيّ للخضار والفواكِه -حيثُ تلاحقُكَ أسرابُ الذباب- وحيث تحاذي السوق دكاكينُ المطاعم الشعبيّة والمقاهي الصغيرة، تتَراصفُ محلّاتُ الإستنساخ وبيعِ اللّوازمِ المكتَبِيّة مثل قطارٍ طويل. إنّها فُرصةٌ لِأنْدَلِفَ إلى المحلِّ الذي يعملُ فيه بمهنةِ كاتب طابعة، الشاعر كاظِم غيلان الشهير برحابةِ الصدر الأمميّة والقاموسُ الآدميّ الذي ينعدِمُ فيه التذَمُّرُ أوالشعور بالتضايُق -على الإطلاق- مِنْ زيارةِ أصدقائه الأدباء وهمْ كُثْرٌ إذا اعتَمَدْنا الإحصاء حتّى في أشَدِّ حالاتِ انْكِبابِهِ على عملِهِ في الطباعة -وهو مصدرُ رِزقِهِ- ذلك الشاعر الذي كَتَبَ ونَشَرَ عن المُنْجَزِ الشعريّ للرائدِ الكبير مظفّر النوّاب في عمْرٍ مبكِّرٍ لم يتَجاوز السابعةَ عشر، وقد ضاهى في كتابتِهِ تلك كِبارَ النُقّادِ ذوي التجربة الضخمة في هذا الحقل مِنَ الأدب.
وحالَ انتهائي مِنَ التجوالِ والبحثِ عن مصادرِ الرزقِ -تجارة ورقِ السيلوفان- في سوقِ الشورجة المكتظّ على الدوام أعودُ مِنْ هناك سيراً على الأقدام بين جموعِ المتسوِّقين الهائلة مخترِقاً شارعَ الرشيد إلى شارع المتنبّي خزّانةِ كتُبِ العراق لملاقاة الشاعر والإنسانِ العظيم حسين حسن أحد أقرب أصدقائي الشخصِيّين حيثُ كان هو الآخر يكافح في بيعِ وشراء الكتُبِ المستعمَلَة من أجلِ تحصيلِ الرزق وهو صاحبُ البكالوريوس في آدابِ اللّغةِ الإنجليزيّة مِنْ جامعةِ بغداد/كلِّيةِ التربية، وهو الذي تلاقفَتْ أشعارَهُ الحداثيّة الصُحُفُ البغداديّة ولمّا يزلْ بعدُ في بدايةِ مرحلةِ الدراسةِ الثانويّة قبيل أواسط الستينات.
وليسَ غريباً أنْ أصادِفَ في زحامِ الطريق العديدَ مِمّنْ أعرِفُهُم أيّامَ إناقتِهِم الصارخة ببدلاتِهِم الباذخة وربطاتِ عنقِهِم الجذّابة وتسريحاتِ شَعْرِهِم اللاّمعة، تتضوَّعُ مِنْ حولِهِم أشذاءُ العطورِ الفاخرة التي كانتْ تُسْتَوْرَدُ مِنْ أرقى المناشئ العالميّة، وقد أحالت السياساتُ الخاطئة والسائلة مِنْ قِمّةِ الهرمِ السلطويّ إلى الظهورِ في حفلةٍ تنكُّريّةٍ ولكنْ على أرضِ الواقع، هذه المرّة بلحاهم الطويلة وثيابِهِم الرثّة وشعورهم الكثّة، يمشون بأجسادٍ هزيلة تعلوهم محاجرُ غائرة، كادتْ تغيبُ عنّي ملامِحُهُم في هذا المضمارِ الحياتيِّ الخائب لولا إصرار الذاكرة بقوّتِها على استعادةِ تلك الوجوه وانتشالِها من بين غيومِ الآثارِ المدَمِّرة للحصار. لمَ لا؟ إنّها وجوه أقراني.. مجايِلِيَّ.. إنها وجوهُ أرضي وجوه الأحبّة. بل إنّها انعكاسُ وجهي تماماً.
ومِن شارع المتنبّي أجرجرُ قدَمَيَّ عائداً بأدْراجي إلى مقهى الأدباء (حسن عجمي) لألتقي بالنخبة التي أصبحَ يميلُ إليها قلبي بكلِّ الجوارح وبمُنْتَهى مجرى التَخَيُّر في عالمِ العلاقاتِ الإجتماعيّة إنّها نخبةُ أدَباءِ العراق، وعبرَهم إلى أدباءِ العرب والعالم.
حتّى إذا اتّخذْتُ مقعدي سرعان ما أستعيدُ مشاهدَ الأمس أو الأمس القريب، العديد من الوجوه الأدبية وبكثرة ما إنْ أتعرّفُ إليهم حتّى يتوارَوا خلفَ حُجُبِ البعاد.. إلى حيث الإغتراب.. إلى حيث أرضِ اللهِ الواسعة.. إلى حيثُ تلوحُ نسائمُ الحرّيّة.. تعرّفتُ إلى الشاعر والفيلسوف الشاب أحمد هاشم في جلسةٍ إتّحاديّة في حديقة اتحادِ الأدباء. كم كنت مسروراً بإضافته الى قائمة اسمَي الشاعرَيْن الفيلسوفَيْن صديقي الحميم خضير ميري والصديق البارّ عادل عبدالله، لكنّهُ سرعان ما توارى إلى ديارِ الإغتراب، تلك الديار الغول الذي ابتلعَ أغلب أدباءِ العراق. كذلك ما إنْ تعرَّفْتُ على الشاعر رياض ابراهيم حتّى توارى هو الآخر صوبَ الإغتراب، لكنّهُ أثناء الرحلة الشاقّة والخطرة عبرَ الشمال.. وصلنا نبأُ النهاية التراجيديّة لذلك العظيم في تواضعِهِ وخلُقِهِ الإنسانيِّ الجمّ.. لقد انتهى بالسكتة القلبيّة أثناء اجتياح دبّابات الحرسِ الجمهوري لمناطقِ الشمال.
رياض ابراهيم الشاعر الذي اشتهرَ بمحاورات الجواهري شاعر العربِ الأكبر وهو في باكورةِ شبابهِ.. كم بكيناه تلك الليلة، وحين ذهبتُ إلى فندقِ العشِّ الذهبي المطلَ على ساحة الأمين وسط بغداد، حيثُ كان يقيم فيه الشاعر الرقيق منذر عبدالحر.. وجدْتُهُ هو الآخر دامعّ العينين، كانَ قد وضعَ دائرةً حول رقمٍ داخل الرزنامة الشهريّة المعلّقة على الحائط، مشيرةً إلى اليومِ الفاجع يوم فقدان سليلِ البصرة وقرّة عين العراق رياض ابراهيم.
Leave a Reply