إنّ للشيطان طيفاً وللسلطان سيفاً
الحجاج بن يوسف
الوازع القرآني، المال والسيف السلطاني:
مقاربة لفهم جذور العنف السياسي
استشرت ظاهرة العنف في الفترة الأخيرة في المجتمعات العربية حتى بلغت حداً لا يطاق، وقد تزامنت طفرة العنف هذه مع ثورات «الربيع العربي»، كما عانت منها بعض المجتمعات غير العربية، والمتهمون في ذلك دائماً عرب (أحداث مالي)، ولذلك حاولنا في مقالنا هذا أن نقوم بمقاربة لمحاولة فهم الأسباب التاريخية التي تكمن وراء تفشّي هذه الظاهرة في البلدان العربية، وقد خلصنا إلى أنّ اسباب العنف السياسي اختلفت من مرحلة إلى أخرى حسب الصيرورة التاريخية التي مرت بها المنطقة العربية الإسلامية:
1- مرحلة الخلافة الراشدة: قامت فيها حروب الردّة وصفّين والجمل حيث قاومت الخلافة الراشدة (المُعَيّنة من أهل الحل والعقد) عسكرياً كل ّالخارجين عنها والمُشكّكين فيها لتأكيد سيادة وشرعية مؤسسة الخلافة في قيادة المسلمين بعد وفاة الرسول (ص)، والتي ستُسمى فيما بعد بإمارة المؤمنين.
2- حروب العصبيات القبلية والمذهبية بدايةً بالدولة الأموية وإلى حدود سقوط الإمبراطورية التركية العثمانية.
3- مرحلة الإحتلال الأوروبي للمنطقة بعد سقوط الإمبراطورية التركية العثمانية والتي قاوم فيها العرب عنف الإحتلال الشديد خاصة ما مارسه الإستعمار الفرنسي في الجزائر من قتل أكثر من مليون شهيد، وكذلك عنف الفاشية الإيطالية في عهد موسوليني ضد الشعب الليبي كما شهدت بقية المنطقة العربية في فترات مختلفة ممارسات استعمارية عنيفة مُماثلة ردّ عليها العرب بشن حروب الإستقلال.
4- ثورات الربيع والتي تفشّى فيها العنف السياسي بشكل كبير والمؤسف أنّ هذا العنف الذي كان يرتكب أغلبه بأيادٍ «عربية» قد طال البشر والحجر ولم تسلم منه حتى التكايا والقبور والزوايا، والأدهى والأمَرّ أنّ كثيراً من هذا العنف يمارس بإسم الدين حيث تُستغل الآيات القرانية في غير سياق نزولها لتجييش العاطفة والوازع الديني لشباب قليل الخبرة والتضلّع في الدين وذلك عبر الفتاوي اللتي تُحرّض على العنف أو تُبرّره. وقد بلغ هذا العنف في شدته ما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي (41 هـ – 95هـ ) بأهل مكة حينما ضرب الكعبة بالمنجنيق سنة ٦٤ هجرية وهي أقدس أماكن المسلمين، وبرّر فعله ذاك بإسم الدفاع عن الإسلام والذي حسب زعمه خرج عنه أهل مكة بإمتناعهم عن بيعة عبدالملك بن مروان. وكان الحجاج يُكفّر كل من خالفوه وينعتهم بالخروج عن الملة. بعد هذا البسط للأمر يطفو سؤال لماذا إتخذنا من الحجاج نموذجا للعنف رغم وجود عديد الحركات العنفية التي ذكرها كثير من المؤرخين كحركة الحشاشين والقرامطة والخوارج الأزارقة وثورة الزنج وغيرهم؟ لقد دوّن المؤرخون أفعال الحجّاج كأكثر نماذج للعنف السياسي فظاعة في تاريخ العرب والمسلمين، بشهادة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز وهو أكثر ثقاة بني أمية والشخصية التي أجمع عليها أغلب مؤرخي المسلمين، بمختلف مشاربهم، وذلك لتقواه وورعه وهو الذي قال في الحجّاج بن يوسف: «لوجاءت كل أُمَّة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم جميعا». كما قال المؤرخ إبن كثير في الحجاج «كان جبارا عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة» كما وصف المؤرخ الذهبي الحجاج فقال «وكان ظلوماً خبيثاً سفاكاً للدماء».
وسنُورد أمثلة أخرى للتدليل على أنّ ما يحصل اليوم من عنف سياسي في كثيرمن الدول العربية الإسلامية بإسم الإسلام هي افعال شاذة عن مبادئ الإسلام الحقيقية، حيث يجمع كل مؤرخي الحقبة النبوية أنّه عندما كتب للرسول (ص) النصر ودخل مكة فاتحاً على رأس عشرة آلاف مقاتل، ورغم تنكيل أهلها به قبل هجرته إلى المدينة المنورة أمّن الجميع ولم يهدم بيتاً أو ينتقم من أحد، ولم يحاصر السكان ليجبرهم على بيعته وقال «اذهبوا فإنتم الطلقاء» هكذا هي شريعة محمد (ص)، ولكن بعد سنوات من وفاته، حاصر الحجاج قائد جيوش بني مروان مكة فرمى كعبتها المقدسة بالمنجنيق وهدم بعضها وقتل أهلها وعلّق الجثث على العيدان وأجبر أهلها على مبايعة عبد الملك بن مروان، هكذا كانت «شريعة الحجاج». ونشهد في أيامنا هذه فظاعات في أماكن عديدة من بلاد المسلمين حيث تهدم المنازل والجوامع والكنائس والمصانع ويُقَتَّل ويُنكّل بالمخالفين وتُصدر الفتاوي بفعل ذلك وتبذل الأموال في التحريض على قتل المسلمين وتدمير مقدراتهم، بدعاية تلبس لُبوس الدّين.
والسؤال موجّه لأولي الألباب، بالله عليكم إلى أيّ الشريعتين ينتمي أصحاب العنف اليوم؟ هل إلى شريعة محمد أم الى شريعة الحجاج بن يوسف؟.
حروب على الهوية: جدل التنوير والتكفير
تشهد المنطقة العربية حالة من الإضطراب الإجتماعي والمعارك الفكرية والعنف السياسي على خلفية الخلافات حول الهوية. وقد تساءل الكثير عن الأسباب والخلفيات التي تقف وراءها وعن توقيت ظهورها الآن؟.
استقرت المجتمعات العربية لآلاف السنين متوافقة حول مضامين جامعة ومعلومة للهوية والتي هي موروث ثقافي تنامى عبر التراكم التاريخي، وإن اختلفت بعض مضامينه فإن هوية المنطقة العربية كانت قد حققت إجماعاً على أنّ العروبة والإسلام هما ثوابت هويّة المنطقة مع وجود تنوع مذهبي وعرقي متجذر تاريخيا ووجوب احترام التنوع للحفاظ على حقوق الأقليات الدينية الأخرى التي تعايشت لقرون بسلام مع المُكَوّن الأساسي العروبة والإسلام. ورغم حدوث خلافات وصراعات بين مختلف المكونات الثقافية والدينية في بعض الفترات التاريخية فإنّها غالبا ما كانت مشحونة من الخارج و لم تصل إلى الحدّ الذي نراه اليوم من دعوات الى «إجتثاث الآخر» وإحداث تغيير جذري وقسري في البنى والمفاهيم الروحية والثقافية التي تمثل السمة الغالبة على المنطقة وإستبدالها بهوية أخرى لم تعرفها أغلب شعوب المنطقة من قبل، بل هي زرع غريب يراد به خرق وتمزيق نسيج الموروث المتجذر في الذاكرة الجماعية كأحد وسائل التفتيت التي تعمل ليلا نهاراً في المنطقة وبتمويلات ضخمة مشبوهة وتحريض مُمَنهج عبر الفتاوي والدعاية الإعلامية.
لقد حاولت المجموعات التي تنسب نفسها إلى السلف وفي أماكن عديدة من المنطقة العربية أن تُرَوِج لمفاهيم لهوية إسلامية هي في الأصل إرث لثقافة دينية مذهبية تبلورت ضمن بيئة مختلفة تمثلها ثقافة الصحراء والتخوم وهي ثقافة استئصالية متشنجة لا تقبل بالآخر وليس لها إستعداد لإحداث ديناميكية للتفاعل مع الغير ضمن مبدأ التثاقف وهي القواعد التي يمكن من خلالها أن نؤسس لفكر تنويري وإنساني.
إنّ الهوية السلفية، التي تعتبرالحركة الوهابية أقصى يمينها وأعنف تمظهراتها، يُعمل الآن على فرضها في كثير من البلدان العربية، وهي هوية فكرية مذهبية لا تقبل «التحدي» الذي قد تمثله ثقافة الآخر، سواء أكان هذا الآخر من نفس البيئة العربية الإسلامية أو قادماً من بيئات مختلفة، لذلك فهي «ثقافة» متشنجة دائماً وتحاول بإستمرار إستئصال الرموز الثقافية والروحية التي لها مدلولات تعبيرية تدل على التمايز الذي يمثله «الآخر المُختلِف». وقد تمظهر الفعل السلفي الوهابي الرافض للتنوع مبدأ ومصيراً عبر عمليات الحرق والتدمير المُمَنهج لكثير من الزوايا ومقامات الأولياء الصالحين ولمكتبات تتضمن مخطوطات نفيسة يربو عمر بعضها على آلاف السنين في ليبيا وتونس وسوريا ومصر ومالي وهناك تهديدات جدية بهدم الأهرامات ومقام الإمام الحسين (ع) والسيدة زينب (ع) وغيرها من المقامات التاريخية بمصر بحجة أنّها أماكن للشرك بالله تآسياً بما فعلته طالبان في أفغانستان ورغبةً في أن تصبح بلاد العرب، عربستان.
لقد كان للزوايا والمقامات الصوفية على طول تاريخها أدوارا إجتماعية هامّة في تدريس القرآن وتوفير الأكل والملاذ للفقراء وختان الأطفال الأيتام والدفاع عن الثغور أيام الحروب التي كانت تُشنُ على بلدانهم، كما كان الكثير منها منطلقاً لمقاومة الإستعمار فكان من رجالها عبد الكريم الخطابي في المغرب وعمر المختار والسنوسي في ليبيا وبوعمامة في الجزائر وغيرهم كثير، كما تعتبر الزوايا في جنوب المغرب وموريتانيا والسنغال وغانا وتمبكتو بمالي أهمّ مراكز الإشعاع الديني التي كان لها الدور الأساس في نشر الإسلام في إفريقيا (جنوب الصحراء) التي لم تصلها الفتوحات الإسلامية. لذلك تحظى تلك الزوايا التي ساهمت في نشر الإسلام المتسامح بتقدير كبير من سكان تلك المناطق الذين هم مسلمون صحيحوا العقائد لا مُجسّمة يقدسون المقامات والزوايا كما تُروج الدعاية الوهابية..
ويذكر التاريخ الإسلامي أنّ العديد من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من أهل السلف الذين كانوا على دراية واسعة بالدين مع تَبَحُرٍ في الفقه، قد شاهدوا الأهرامات والمقامات المتناثرة في مختلف البلاد العربية الإسلامية، ورغم ذلك لم يأمروا بحرق أو هدم تلك الأمكنة التي عاشت لقرون مديدة إلى أيّامنا هذه، فلماذا لم يقتدِ «سلفيو» اليوم بذاك السلف الأقرب تاريخاً لزمن رسول (ص) بل اقتدوا بالذين جاؤوا في القرن الثامن عشر (بن عبدالوهاب 1703 – 1791) وسَنّوا شريعة هدم القبور والمقامات وتسويتها بالأرض وحرق رفاة الأموات؟
الإرهاب والكباب: مالي وعودة الإستعمار فـي عباءة المُخَلِص
الأحداث التي عرفتها مالي أخيراً من سيطرة الجماعات المسلحة المنسوبة إلى الحركات التكفيرية (السلفية) والتي سيطرت على أجزاء مهمة من دولة مالي التي تقع في غرب إفريقيا وتحُدّ الجزائر وموريتانيا، وقد حوّلت الجماعات المسلحة البلاد إلى حالة من الفوضى ممّا صَعَّب حياة الشعب المالي وجعله يستغيث طلبا للنجدة التي لم تأت من منظمة التعاون الإسلامي المتفرجة دائما على الأحداث والتي تُصرف الأموال على مبانيها المنتشرة في كل البلاد الإسلامية وعلى موظفيها ليصدروا فقط بيانات على مقاس رغبات بعض دول الخليج الضالعة بشكل أو بآخر في أغلب مآسي العالم الإسلامي.
كما لم تأت النجدة إلى مالي من العرب الذين يقود كثير من أبنائهم حركة التمرد المسلح بمالي، فإنتهزت فرنسا الدولة المستعمرة قديماً لمالي ولكثير من الدول الإسلامية العربية والإفريقية،الفرصة التي طُبخت على نار هادئة لتعود عسكرياً لحماية مصالحها في أحد أهم البلدان المُصَدِرة للذهب في العالم، كما أنّها أصبحت على مرمى حجر من مستعمراتها القديمة في المغرب العربي وفي إفريقيا جنوب الصحراء وعينها أساساً على بترول وغاز الجزائر ومناجم موريتانيا وغانا وبقية الدول التي تكتنز أراضيها الثروات التي تمّ إكتشاف الكثير منها حديثا عبر الأقمار الإصطناعية.
يرجع الفضل إلى الحركات التكفيرية المسلحة ومن يقف وراءها في عودة فرنسا إلى إفريقيا عسكرياً وربما ستتلوها فيالق أخرى عسكرية أوروبية تحت يافطة «الإنسانية» بحجة نجدة مالي وشعوب كل البلدان التي تنام على ثروات من المعادن النفيسة والثروات الباطنية الهائلة والتي ستعقد لها الصفقات السرية قبل أن يتم «شفطها» ببلاش أو بسعر التراب لتستمر سرقة مقدرات الشعوب تحت يافطات الإنسانية الى أن يصحو ضمير العالم.
نعم عادت فرنسا إلى إفريقيا عسكرياً بإسم محاربة الإرهاب ولكن عودتها كانت إلى وليمة للكباب، لكنه ليس الكباب الذي تحدث عنه عادل إمام في فلمه الإرهاب والكباب،إنّه كباب من نوع آخر، وليمة لثروات إفريقيا التي تقدر بالمليارات ولذلك بدأ التسابق نحو الفريسة الجديدة حيث أعلنت بريطانيا أنها ستبعث تجريدة عسكرية إلى مالي في مهمة غير قتالية، ومن المنتظر أن تلي تجريدة بريطانيا مجموعات عسكرية لبلدان أوروبية أخرى للقيام بمهام «إنسانية» طبعاً «يا حنيّنين إنتو».
بعد أن عمل الترهيب دوره، كرِه سكان مالي الجاليات العربية هناك وهجموا على متاجرهم فنهبوها وهنا يظهر سؤال كبير: أليس غريباً أنّه كل مرة يُرسل فيها «الجهاديون» الى منطقة يُنكّلون بالسكان لتتم دعوة «المخلّص»، الذي يكون دائما عساكر غربية ويهرب المسلحون من الساحة وكأنهم فصّ ملح وذاب؟
لقد حارب سلفنا من الأبرار الإستعمار على مَرِ تاريخ المنطقة وأخرجوه بعد تضحيات جسام، لكن ليعيده للأسف الشديد خَلَفٌ يدّعون إتباع السلف.. إنها سخرية الأقدار.. وتبدو أدوار بعض البلدان العربية غير خافية في هذه اللعبة التي تستهدف تقسيم المنطقة من جديد، الحقيقة ما قصرتم يا طوال العمر لأنكم لم تتركوا لأجيال العرب والمسلمين القادمة من خيارات سوى أن يقتلوا بعضهم البعض على مذهب وشريعة الحجاج أو أن يساقوا سَوْقَ قطعان النعاج.. لكن هيهات ستسفِّه الأجيال القادمة أحلامكم وتحولها الى سراب وقبض من الريح.
Leave a Reply