عادت أخبار فشل الجهود التي قادتها الولايات المتحدة لإعادة إعمار العراق خلال فترة احتلالها العسكري المباشر له لتتصدر وسائل الإعلام الأميركية استنادا إلى تصريحات مسؤولين أميركيين بارزين من بينهم وزير الدفاع السابق ليون بانيتا الذي غادر منصبه الأسبوع قبل الماضي. وقال بانيتا قبيل تركه منصبه إن عدم قدرة إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما على إبرام اتفاق ينص على ترسيخ وجود عسكري أميركي في العراق بعد عام 2011، حرم الولايات المتحدة من نفوذ سياسي مهم لممارسته هناك.
وأضاف بانيتا إنه عندما كانت الولايات المتحدة تمتلك قوات عسكرية في العراق فإن قائد هذه القوات إلى جانب السفير الأميركي في بغداد «أوجدا قوة قوية» تمكن من ثني رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي عن اتخاذ «قرارات سيئة» و«الخروج من الهاوية».
وعزا بانيتا الفشل إلى أن دور الجيش الأميركي في العراق لم يتعلق بإعادة إعمار العراق وهو دور لم يكن مستعدا له بل كان «الجيش في العراق لخوض حرب».
وجاءت تصريحات بانيتا في التقرير النهائي الذي أعده المفتش العام الأميركي الخاص إعادة إعمار العراق ستيورات بوين بعنوان «دروس من العراق» والذي صدر الأربعاء الماضي في 171 صفحة. وقال بوين في تقريره إن انسحاب القوات الأميركية من بغداد نهاية عام 2011 الماضي تسبب في الحد من قدرات الولايات المتحدة على تشكيل الأحداث هناك.
ويتضمن التقرير أيضا آراء مسؤولين أميركيين وعراقيين بارزين توصلوا إلى استنتاجات مشابهة تتحدث عن أخطاء الولايات المتحدة في العراق، حيث كشف هؤلاء أن الولايات المتحدة تولت القيام بالعديد من المشاريع العملاقة لكن دون أن تتشاور في الأغلب، وبشكل كاف، مع العراقيين لتحديد المشاريع التي يحتاجها الشعب العراقي بالفعل وكيفية تنفيذها.. لذلك فإن العراقيين لم يكونوا دائما قادرين على مواصلة تنفيذ هذه المشاريع مع بدء تقليص الوجود الأميركي في بلدهم.
وأوضح بوين في تقريره أن من بين التحديات التي واجهت الولايات المتحدة في العراق، إنشاء مكتب يتشكل من مسؤولين عسكريين ومدنيين يهدف إلى تخطيط وتنفيذ هذه المشاريع، في حين تمثل التحدى الآخر في البدء في مشاريع إعادة الإعمار عقب استتباب الأمن والتركيز في البداية على المشروعات الصغيرة.
ويذكر أن الأدميرال (المتقاعد) ديفيد ناش كان مسؤولا عن ميزانية إعادة إعمار العراق التي كانت خصصتها الحكومة الأميركية عقب احتلال العراق بقيمة 18 مليار دولار، غير أن التقرير يذكر أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 60 مليار دولار إلا أن النتائج كانت دون مستوى هذه المبالغ الطائلة. مشيرا إلى أن مختلف الميزانيات التي خصصت للنهوض بقوات الأمن وإصلاح شبكات الكهرباء وتوزيع المياه في العراق كانت أقل فائدة بكثير من المنشود.
ويستند التقرير إلى المئات من عمليات المحاسبة والتدقيق وعشرات المقابلات، وخلص إلى أن نحو 40 بالمئة من المشاريع التي تم تنفيذها في العراق عانت من أوجه خلل كبرى. وقال نائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز إن الولايات المتحدة بالغت بشكل كبير في التخطيط «لعمل كل شئ في العراق ومن خلال طريقتها الخاصة لتكتشف فقط بسرعة أن الأميركيين لم يعودوا يرحبون ببقائنا في العراق». بينما اعتبر ريان كروكر السفير الأميركي (السابق) لدى العراق خلال الفترة من 2007 إلى 2009 أن أكبر مشكلة واجهت واشنطن تمثلت في فشلها في الحصول على الدعم الحقيقي من جانب العراقيين لمواصلة مشاريعها الكبرى. وقال إن الخطأ الرئيسي كان الفشل في ضمان دعم العراقيين لمشاريع مكلفة حيث كان العراقيون في الاجتماعات الخاصة بمناقشة المشاريع يعبرون عن موافقتهم أحيانا بإيماءة الرأس في وقت كانوا غير مهتمين في المشاريع وهو الأمر الذي تكرر أيضا في أفغانستان التي عمل كروكر سفيرا لأميركا فيها.
أما خلفه السفير جيمس جيفري (من 2010-2012) فقد قال إن جهود إعادة إعمار قد حققت بعض التقدم بتوفير العمل لعشرات الآلاف من العراقيين وتحسين نظام الرعاية الصحية وتحسين مشاريع إنتاج النفط وتوليد الكهرباء وبناء جيش عراقي جديد. لكنه أكد في الوقت نفسه أن «أموالا كثيرة جدا قد انفقت والنتائج كانت ضئيلة».
وقال وزير المالية العراقي السابق رافع العيساوي إن «بدلا من التركيز على عدد صغير من المشاريع التي يحتاجها بالفعل الشعب العراقي، بدأت الولايات المتحدة في تنفيذ مشاريع كبيرة مثلت صعوبة فيما بعد على العراقيين لاستكمالها»، منتقدا بشدة سياسات حكومة المالكي.
وقال العيساوي إن الولايات المتحدة فشلت في بناء مشاريع إعادة الإعمار وأن أحد المعالم السياحية. في مسقط رأسه في مدينة الفلوجة، وهو جسر على نهر الفرات كرمز لفترة الاحتلال البريطاني في أوائل القرن العشرين لم يجر إعادة إعماره بعد تدمير المدينة في معارك ضارية مع المسلحين، كما ترك الأميركيون وراءهم محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي كلفت جزءا كبيرا من الميزانية ولا تقدم سوى خدمات لجزء قليل من سكان المدينة.
أما وزير العدل العراقي، حسن الشمري، فقال إن الأميركيين بنوا بنية طيبة ومولوا مشاريع صغيرة قرب قواعدهم العسكرية ولكن القليل منها كان مكتفيا ذاتيا. وأضاف «لو كنت وزيرا في الحكومة في عام 2004، لقدمت لهم رؤية، لكن هذا ما لم يكن يحصل بسبب عدم وجود مهمة واضحة فلم تكن هناك أولويات».
ونقل التقرير كذلك عن فؤاد حسين، وهو من أقرب مستشاري مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العراق، أن «الأمر لم يقتصر على عدم وجود تنسيق بين وزارتي الخارجية والدفاع والسلطة المؤقتة بل إنها كانت تتقاتل فيما بينها»، على حد قوله. وأضاف إن «السياسة كانت تتمثل في السيطرة كليا على وزارات النفط والداخلية والدفاع لكن إذا كنتم لا تدرون شيئا عن الثقافة المحلية فإن النتيجة هي الفوضى».
ويتضمن التقرير تصريحات للمالكي التي يؤكد فيها امتنانه لقيام الولايات المتحدة بضخ استثمار في العراق، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أنه «إذا ما نجحت الجهود الرامية إلى إدارة مليارات الدولارات التي جاءت في شكل مساعدات إلى العراق بشكل جيد، لكانت كافية لتحقيق تغيير حقيقي وجذري في العراق».
وتسلط عضو مجلس الشيوخ الأميركي كلير مكاسكيل الضوء على حقيقة انعدام التنسيق بين الجانبين الأميركي والعراقي في هذا الشأن حيث تقول «إن التعاون الذي تم بين الجانبين أثبت فشلا ذريعا»، بينما اعتبر مسؤولون أميركيون آخرون أن القائمين على هذه المشاريع فشلوا في استيعاب حقيقة أن العراقيين لن يسمحوا ببقاء القوات الأميركية عقب انتهاء موعد رحيلهم وهو ما تجلى في رفض الحكومة العراقية منح القوات الأميركية الحصانة القانونية للبقاء عقب عام 2011.
وقال بوين إن الولايات المتحدة فشلت في استثمار ما يكفي في برامج بناء القوات التي يمكن أن تعزز مؤسسات الحكم الوليدة في العراق الذي جمع الآن ثروة ضخمة من عوائد النفط ولكن الهيكلية السياسية والمؤسساتية لا تزال غير قوية، موضحا أن «العراق ليس على وشك أن يصبح دولة فاشلة ولكن هذا البلد محفوف بتحديات كبيرة في هذه اللحظة، الأمر الذي يتطلب المصالحة والتوافق وإشراك مجموعة واسعة من الجماعات التي كانت استبعدت على مدى العامين الماضيين».
يستعرض التقرير ما قال إنها نماذج لاستثمارات فاشلة يرجع بعضها إلى عدم مراقبة الشركات المستفيدة من العقود. وقال إن «شركة انهام ال.ال.سي حصلت على سبيل المثال على مبلغ 300 مليون دولار لإدارة مستودعين ومراكز توزيع، ولم يتردد متعاقد من الباطن مع هذه الشركة في محاسبتها على 900 دولار مقابل عوازل كهربائية لا يزيد سعرها عن 7 دولارات، أو 80 دولارا لأسلاك لا يزيد سعرها عن 1.5 دولار».
وأضاف التقرير أن «الولايات المتحدة استثمرت 80 مليون دولار في بناء سجن قدرته الاستيعابية تصل إلى 3600 سجين، لكنها عدلت عن هذا المشروع بعد ذلك عامين وبعد أن أنفقت هدرا نصف هذا المبلغ».
يذكر أن مكتب الميزانية الأميركي يقدر التكلفة المباشرة لحرب الولايات المتحدة على العراق بالنسبة من 767 مليار دولار. لكن اقتصاديين يؤكدون أن الكلفة الإجمالية للحرب قد تصل إلى 4 تريليون دولار.
Leave a Reply