الديمقراطية وسياسة المكاييل: حلال عليهم حرام عليكم
تسود في الغرب فكرة عن العرب والمسلمين أنّهم شعوب غير ديمقراطية، وأنّه لا يوجد في ثقافتهم ما يساعدهم على ذلك، فتاريخهم حسب هذا الزعم لا يعدو كونه حروب وفوضى قبائل أو جيوش غزو وهمجية. ندرك أنّه ليس من الصعب على أيّ باحث يريد أن يرسّخ فكرة ما، حول شعب ما، أن يبحث في تاريخ ذلك الشعب عمّا يبرر رأيه، ينتقي الأسانيد بعناية وأحيانا كثيرة يخرج النصوص عن سياقها التاريخي، يلوي عنق الحقيقة ثم يُرَكِبُها ويقدّمها على أنّها الحقيقة التي لا تشوبها شائبة، وكم من الأجيال في الغرب نشأت على هذه الأفكار، ومن خلال تلك «النظريات» أسّست لنظرة دونية للثقافة والتاريخ العربيين وعبر نافذة الإستشراق الإقصائي التي سادت لعقود نظرت للمواطن العربي كشخص فض وجلف صحراء وراعي جِمال والذي يظل دائماً متهماً حتى تثبت تهمته.
وصورة المواطن العربي من خلال التاريخ الذي كُتب في فترة سيطرة المركزية الأوروبية الإستعمارية هو إنسان متخلف غير قابل للدمقرطة، لذلك كانت كل المحاولات العنيفة والتدميرية التي عرفتها المنطقة من إحتلال أو ضربات خاطفة والتي إستهدفت العرب بإسم الدمقرطة مقبولة لدى أغلب الغرب لأنّها وحسب زعم الكثير منهم عملية لأنسنة الثقافة العربية (أي جعلها أكثر إنسانية) ودمقرطة السياسة. لم تكن النظرة الغربية للأنظمة الدكتاتورية العربية المُنصَّبة في الغالب من الخارج سيئة ، بل بالعكس كان أغلب الغرب يروج للدكتاتوريات على أنّها ضرورة لا بديل عنها للسيطرة على شعوب تُعرّفُ لديهم بأنّها ميالة للعنف بسبب ثقافتها غير المُؤَنْسَنَة.
عرفت شعوب المنطقة العربية أسوأ الأنظمة السياسية في العالم ، لكن رغم ذلك كان أغلب “الزعماء” العرب الفاشيين يجدون كل الترحيب وكان يفرش السجّاد الأحمر في إستقبالهم في أغلب البلدان الديمقراطية الغربية التي كان أغلب قادتها يغمضون عيونهم عن تجاوزات حلفائهم في مجال حقوق الإنسان في تلك البلدان التابعة لهم والتي تمتليء سجونها بأهل الرأي والفكر وتعتبر تلك الدعوات في أعرافهم مضيعة للوقت، لأنّه ينظر إلى تلك الشعوب على أنّها من درجةٍ عاشرة لذلك فالديمقراطية بالنسبة إليهم تعتبر من الترف والكماليات.
من دكتاتورية الصقيع إلى ديمقراطية الربيع: المحك
على مدى التاريخ الحديث والمعاصر لأغلب دول المنطقة العربية الإسلامية، لم يكن يسود من الأنظمة السياسية إلاّ الدكتاتوريات أو دول تسودها الفوضى حيث أصبحت بعض البلدان العربية رديفا لذلك فيقال صوملة ولبننة وعرقنة والقائمة بدأت تمتد، وكانت تلك الأنظمة تخنق كل نفس ديمقراطي وتجد الدعم من بعض الخارج إمّا عبر التواطؤ والمشاركة أو عبر التغاضي والتعامي والمحاصرة الإعلامية للحدث.
وقد واجهت المحاولات التي قامت بها الشعوب العربية خلال الثورات الأخيرة والتي تعرف بثورات الربيع لإرساء الديمقراطية، رفضاً من داخل الأنظمة العربية وهو أمر مفهوم، وعدم ترحيب من الخارج وهو المستغرب وقد إنتهى الأمر «بالخارج» مع بعض حلفاء الداخل إلى مسايرة في الظاهر للتيار الشعبي الثوري مع سعي غير معلن للإلتفاف على الثورات أو تقويضها من الداخل عبر تأجيج الإختلافات أو إختلاقها. لم يلتفت أغلب الغرب الذي كان ينتقد الشعوب العربية في ثقافتها التي كان يُوصّفها بالفوضوية والعنفية إلى الرغبة الجامحة للعرب لإرساء أنظمة ديمقراطية وإلى تعبيراتهم الراقية التي إبتدعوها عبر تحركات سلمية في أغلبها وواعية وصادقة، وكان من المؤمل أن يجد هذا التوجه الديمقراطي دعما صادقا وحقيقيا من الديمقراطيات الغربية العريقة خاصة وأنّه حراك سلمي إلاّ أنّ الرغبة في الحفاظ على المصالح غلبت الرغبة في دعم شعوب متعطشة للحرية. لقد تحالفت قوى المصالح من الداخل والخارج لتحاول أن تجبر الثورات أن تنحى منحى مخالفاً لتطلعات شعوبها واستعملت كل الوسائل حتى لا تحقق الشعوب ديمقراطيتها المنشودة أو نظامها «المُخلّص» واعتمدت القوى المناهضة لخيارات الشعوب في الديمقراطية على مسارات وأساليب متعددة لتحقيق أهدافها:
– قوة الردع والسلاح: وقد برز ذلك في التجربة الليبية حيث دُمرت أغلب بنية البلاد التحتية وتحول مواطنوها من باحثين عن الحرية إلى باحثين عن الأمان بعد أن أصبحوا لاجئين في بلدهم، وبالكاد يجدون قوت يومهم، أمّا في سوريا فقد حُوّل الحراك السلمي إلى حرب أهلية تُدمَرُ فيها الدولة عن طريق قوى متحالفة من الداخل والخارج، يخوضون فيها حربا بالنيابة. وتكفّل درع الجزيرة في سابقة خطيرة بالتدخل في البحرين في محاولة لإخماد أنفاس تطلعات أهلها. وفي اليمن وإثر تسوية خليجية أقيمت انتخابات نافس فيها نائب الرئيس ظله، ويادار ما دخلك شر.
– فتاوي ربيعية أم عودة الكهنة: جاء الإسلام فقضى على المؤسسة الوثنية التي كان يرأسها السَدَنَة والكهنة قال ص «لا كهانة في الإسلام» ومعنى ذلك أن لا سدنة ولا وسطاء يتكلمون بإسم الله بل علاقة عمودية مباشرة بين الله وعباده، وجميع الخلق مُكَلَفون أمامه قال تعالى «كل نفس بما كسبت رهينة» لكن عملت بعض الجهات و في استراتيجية أصبحت مكشوفة الأبعاد على إعادة إنتاج «مؤسسة السدنة» بشكل جديد وقامت بتلميع بعض الشخصيات الدينية لتصبح «مراجع» للفتوى، وأصبحت الفتاوي تتجول من موقع إلى آخر ومن عنوان إلى آخر فبعد التحريض على بعض الأنظمة وتمجيد أخرى تحوّلت إلى تحريض الأحزاب ضد بعضها وتأجيج الصراعات بين الطوائف ثم تضاربت الفتاوي بإختلاف مصالح «الشيوخ» والأحزاب الدينية فتحولت بعض الدول بفعل الحروب إلى أثرٍ بعد عين.
في ظل هذه الأوضاع المأساوية للشعوب أصبحت الديمقراطية لغوا وترفا في ظل شعوب مُهجرة في الملاجئ وفي ظل حروب لا عنوان لها إلاّ التدمير أولا وثانياً وأخيراً.
– دور المال السياسي: المال قوام الأعمال هي مقولة كثيرا ما تُردد عن الدور الذي من الممكن أن يلعبه المال في بناء حياة آمنة للشعوب لكن المال في موضوعنا هذا لعب دوراً هدّاماً سلبياً فيمكننا أن نقول أنّ ما ينطبق عليه هنا هو المال مُخرب الآمال. وقد لعب المال دورا كبيرا في محاولة القضاء على إرساء ديمقراطيات حقيقية في بعض بلدان «الربيع»، إذ دفع المال بإسم نصرة تيار ضد آخر، لكنه دفع ليقبض مقابله مواقف وتوجهات داخل المنظمات العربية والإسلامية والدولية كما تم أحيانا فرض توزير بعض الشخصيات لتوظف ضمن الإطار العام للأجندات، كما إستُعملت بعض الوجوه من ثورات تونس ومصر لتلميع الأنظمة المانحة التي هي في أغلبها أكثر دكتاتورية من الأنظمة التي أُسقطت. لقد وُعدت مصر وتونس في بداية الثورة بالأموال ولكن لما أيقن أهل المال أن الأمور لن تكون بالسهولة التي كانوا يعتقدون وأن هناك شارع واع «ومْفَتَحْ» فبدأت المساومات، ثم جيء بأحلاف جدد حتى من خارج التيار الذي يساندونه ليقع توظيفه عند الضرورة كخط رجعة. لم يُهدد المال السياسي دول الربيع فقط بل هدد كل موقف حرّ، فها هي لبنان قد تدفع ثمن موقف أحد وزرائها الذي طلب بعودة دولة عربية إلى صفوف الجامعة فلوحت بعض الدول الخليجية بسحب أرصدتها من بنوك لبنان ، هذا هو المال السياسي العربي، رغم أنّه لم يبنِ المصانع ولم يُحي المزارع ولم يبنِ السدود، فماذا بنى إذا؟ اسألوا أهل لبنان يخبرونكم الخبر اليقين.
لقد دخل المال السياسي لابساً جلباب الديمقراطية ليس لنصرة الثورة والثوار بل للتواجد داخل الثورات وتقويضها من الداخل وتوجيهها غير الوجهة التي ثارت من أجلها الشعوب. لم يعمل المال السياسي من أجل المساعدة على إرساء الديمقراطية كما أشيع ويشاع بل إنّ أكثر خوف أصحاب المال السياسي هو من إرساء ديمقراطية حقّة، لأنّها هي الخطر الحقيقي على أنظمتهم وإمبراطورياتهم التي لا يمكن أن تحيا في ظل بحيرة نقية من الأنظمة العربية الديمقراطية. إنّ البكتيريا لا تحيا إلاّ في المياه الآسنة ولا تصطاد إلاّ في المياه العكرة.
Leave a Reply