تضليل إعلامي: سُكْ على البُقْ
إن انغماس جميع الأطراف المتصارعة في وحل الأزمة السورية غطّى على سؤال أساسي وهام يخص مصير ومستقبل سورية والمنطقة العربية كلها، كما أن له أثر كبير على مستقبل التوازنات الدولية. والسؤال هو: ماذا بعد رحيل النظام السوري الحالي؟ ويزداد السؤال سخونة وإلحاحا لعدة اسباب:
أولاً: حالة اللااستقرار التي تعيشها بعض «دول الربيع» وتنامي روح الكراهية والتطاحن المناطقي والمذهبي وانهيار ثوابت العيش المشترك التي عرفتها المنطقة العربية لسنين عديدة، رغم محاولات كثيرة في السابق للعب على أوتارها لم يحالفها نجاح كبير، لكن نتيجة الزلزال الذي تعرفه العديد من البلدان العربية من فوضى وانفلات الأمن، وجد الصائدون في المياه العكرة الفرصة ليعيدوا الكرة من جديد ورغم النجاحات المحدودة التي حققوها الى الآن نتمنى أن ينقلب كيدهم في نحرهم ويقي الله العباد شرهم.
الخطيب في قمة الدوحة |
ثانياً: رغم حالة التعتيم الإعلامي الذي تمارسه القوى الإقليمية المهيمنة على قرار معارضة الخارج وعلى ما يجري من صراعات واختلافات وتراشق بالتهم فيما بينهم بلغ حد التخوين والتهديد بالاستقالات والانشقاقات وتجميد العضوية. أمام هذه المعطيات يحاول عرابو الثورة السورية اخفاء هذه الاختلافات قدر الإمكان، مع العمل على تحقيق هدفهم بأسرع وقت قبل ان ينفرط عقد شتات المعارضة الذي لملموه على عجل وجمعوا أعضاءها من كل حدب وصوب وفجًّ عميق لأنّ الذين جمعوا هذه الفسيفساء السياسية والايديولوجية يدركون أنها لن تصمد طويلاً وأنها مجرد غطاء لاكتساب شرعية أوسع أمام المجتمع الدولي وداخل الشارع السوري، أما صاحب النصيب داخل هذه المعارضة فرغم محاولة اخفائه الآن وسط كومة المعارضة الخارجية فهو معلوم للكثير يدل عليه ما يحصل في بقية دول «الربيع» والبعرة تدل على البعير.
إنّ محاولة التعرف بشكل أدق على المعارضة السورية في الخارج مهمٌ، لأنها تقدم نفسها كبديل للنظام القائم، لكن في ظل زحمة الاحداث وتسارعها أغفلت أغلب الصحافة العربية التي تهيمن على اغلبها الدول «النفطوقراطية» أن تسلط الضوء على المكونات الرئيسية للمعارضة السورية وعلى خلفياتها ومرجعياتها الايديولوجية والسياسية، إلا ما تجود به الصحافة الغربية والتي أصبحت هي الأخرى تكافح من اجل الحفاظ على استقلاليتها في ظل سعي «نفطقراطي» متواصل الى شراء مؤسساتها لكننا ندرك ان الافواه التي ألفِت الحرية لا يمكن تكميمها.
النفطقراطية: الإخوان أوّلا وأخيراً
تحاول القوى الاقليمية التي تقف وراء معارضة الخارج السورية، أن تخفي ما لا يخفى، أي أن لا تكشف أوراق الأجندات أو المكون السياسي الذي ترشحه ليكون لاعبها الاساسي على المسرح السوري بعد سقوط النظام الحالي، فسعت تلك القوى منذ البداية أن تكسب ود الغرب عبر وضع «رؤوس» مقبولة على كل المنظمات التي ألفتها ووضعت لها قوانيننها. ويقول المعارض هيثم المالح في هذا الصدد «كنت اعرف الاتصالات الاولى التي تمت لتأسيس المجلس الوطني السوري، وقادها الإخوان المسلمون ومعهم مجموعة إعلان دمشق ويترأسها رياض الترك»، وأضاف «عرفت أنهم رشّحوا برهان غليون العلماني فقط ليثبتوا للناس أنهم مع التعدد».
وموضوع تكوين المجالس والائتلافات السورية المعارضة ووضع قوانينها ليس فرية، اقرأوا ما قاله كمال اللبواني المعارض السوري وعضو الائتلاف والذي قال ان موظفاً في خارجية إحدى الدول الخليجية هو من أتاهم بالقانون الداخلي للإئتلاف ليقرّوه، وتوجيه المعارضة السورية في الخارج الى حيث تريد قوى اقليمية اصبح أمرا معلوما للجميع، رغم وجود بعض المعارضين السوريين الشرفاء الذين يرفضون سيطرة جهات نفطقراطية على قرارهم وتحويل ثورتهم الى معول تدمير لبلدهم. إذاً تواصلت سياسة «أنا لا أكذب بل أتجمل» حيث تم إنشاء «المجلس الوطني» في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) 2011 باسطنبول وعينوا عليه، لتجميله ولتسويقه خارجيا شخصية علمانية تحظى بقبول الغرب وهو الأكاديمي الفرنسي من أصل سوري برهان غليون، الذي يمثل هو وأمثاله أقلية لا تملك نفوذاً فعلياً في المجلس ولا على الأرض، فهم مجرد واجهة. ولذلك فهم يميلون مع ميل رياح «النفطقراطية» حيثما أرادت. ورغبةً بإرضاء المكون الكردي الذي كان يثير قلق الوسيط النفطقراطي بتمرده على قرارات المجلس ومقاومته لدخول الجيش الحر الى مناطقه، عيّن الكردي السوري عبدالباسط سيدا في 9 حزيران (يونيو) 2012 رئيسا للمجلس بدلا من غليون لتهدئة هواجس الأكراد ودفعهم الى الانخراط بالعمل المسلح الذي كان يقوده بعض المنشقين من العسكر وجماعات مسلحة مختلفة المشارب ينضوي بعضها تحت مسمى «الجيش الحر». استمرت سياسة التجميل والترضية بعد أن تعالت صيحات المجتمع الدولي ضد قصف مجموعات مسلحة محسوبة على التيار الاسلامي لبعض الكنائس فتم تعيين السوري المسيحي جورج صبرا في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 رئيساً للمجلس، ويبدو أن الهدف من هذا التعيين كان توجيه رسالة لمسيحيي الداخل والخارج الذي يعتبرون وجود النظام العلماني الحالي ضمانة للاقليات امام زحف المجموعات الإسلامية، وأيضاً بسبب تململ المعارضة أمام هيمنة «الإخوان» على المجلس، نتيجة الدعم المالي الذي يتلقونه من دول الخليج مما جعل منهم القوة المنظمة الأولى في المجلس في مقابل تشرذم القوى العلمانية والليبيرالية واليسارية.
لم تتغير سياسة التعامل مع المعارضة السورية في ظل «الائتلاف الوطني» الذي أسس في 11 تشرين الثاني الماضي بالدوحة بديلاً للمجلس الوطني حيث واصلت القوى الاقليمية المهيمنة على قرار الإئتلاف محاباة «الإخوان» وعلى حد راي اللبواني هناك شخصيات تابعة للإخوان وقع ادخالها الائتلاف على أساس أنها تمثل مكونات أخرى ولم تكن كذلك. «هذا ما يقدم صورة مضللة عن التوازن داخل هذا الائتلاف، فهو عملياً مختلّ تماماً لصالحهم» يقول اللبواني، الذي أضاف أن «كل اللجان التي تم انتخابها داخل الائتلاف كانت لمصلحتهم، وإن أعضاءً في مكاتب الائتلاف تم تعيينهم بنفس الطريقة» محذرا من تركيز «الإخوان» على أموال الإغاثة «لأنه يتحكم في أموال كبيرة يمكن استعمالها لـشراء الولاءات». كما تذهب بعض المصادر الإعلامية الى أن الكثيرين في الائتلاف يرون في الإنتخاب المفاجئ لغسان هيتو كأول رئيس حكومة إنتقالية هو خيار إخواني إقليمي مدعوم من تركيا والغرب.
خط الإمام: الحلو ما يكملش
رأى محللون في أنّ انتخاب إمام المسجد الأموي السابق معاذ الخطيب رئيسا للإئتلاف السوري المعارض يمكن أن يمثل نقلة نوعية في عمل المعارضة السورية، قياسا على شدة تأكيد «الإمام» على ضرورة استقلالية قرار المعارضة، رغم أن أول خطاب توجه به كان قد طلب فيه تسليح المعارضة، ولا ندري كيف فات شيخنا أن في عالم السياسة من يدفع يريد مقابلاً والقوى الإقليمية التي تدفع لا تقبل بأقل من السيطرة على قرار المعارضة وولائها لصاحب النعمة فالمعروف حسب اللبواني فإنّ الائتلاف «أسير دول أقليمية وعربية» وحتى نظامه الداخلي جيء به جاهزا للأعضاء ولم يكن أمامهم إلاّ التوقيع عليه، كما أن تعديله صعب ويتطلب مداولات واجتماعات وموافقة الثلث، فمن الصعب على من يقبل هذه أن يرفض غيرها!
لكن سياسة الخطيب كانت تبدو معادية للاتجاه الإقليمي الذي يريد أن يهيمن على المعارضة وتوجيهها وجهة تدميرية فطرح مشروعه للحوار مع النظام السوري، وكانت تلك ضربة للأجندات التي لا تقبل إلا برحيل النظام وتدمير مقدرات الدولة الاقتصادية والعسكرية لكن رفض بقية أطراف الائتلاف لمبادرته جعله يتذبذب وكأنه تيقن من أن شيئاً ما يدبر لبلده أو كأنه غير مقتنع بوجوده ضمن الائتلاف رغم انه يرأسه، نتيجة إحساسه بأنه مجرد ديكور ولا قرار له مما جعله يعلن استقالته بعد انتخاب غسان هيتو رئيسا للحكومة الانتقالية، وذلك قبل انعقاد «القمة العربية» بالدوحة بيومين، مما دعا دولاً إقليمية وحتى لا تتعقد الامور لاسترضائه ليكون رئيسا للوفد السوري في القمة، وقد حاول الخطيب ان يكون متميزا في خطابه وهو يعلم أن كل الانظار موجهة اليه لتسمع خطابه الذي جاء موجّهاً للقوى الاقليمية والخليجية التي تريد تقديم «الإخوان» كبديل، كما وجه سهاماً للدول التي تريد ان توجه الثورة السورية الى حيث تريد عبر المال. ويعتقد محللون أن الخطيب قصد الدول الخليجية، وقطر خصوصا، فقال «الشعب السوري وحده من فجّر الثورة وهو وحده من يحدّد طريقها والشعب السوري سيقرر من سيحكمه، لا أيّ دولة في العالم».
ويعتقد مراقبون ان هذا الخطاب سيكلف الخطيب مستقبله السياسي اذا كان يعني ما قاله وذلك لسبب بسيط وهو ان المعارضة التي تعيش في الفنادق وتركب الطائرات وتصرف الاموال بملايين الدولارات التي لا تدفعها من جيوبها، انما بأموال الدول «النفطقراطية» التي تسعى الى سلب المعارضة إرادتها لتحدد لها طريقها ومسارها، وهو ما رفضه الخطيب في خطاب الدوحة. فإذا رفض الخطيب المقايضة السياسية فمن أين سيمول تحركاته وتسليح المجموعات المقاتلة في الداخل؟ أسئلة ستجيب عنها الأيام وستظهر هل ما قاله الخطيب في خطاب قمة الدوحة هو نتيجة قلة الخبرة السياسية، أم هو اندفاع انسان حر حسن النية، أم هي برغماتية سياسية (اضغط لتأخذ) بعد ان أحس بالبساط يسحب من تحته بتولي هيتو رئاسة الحكومة الانتقالية؟ أم أنّ ما قاله يدخل ضمن حملة لكسب الشعبية بتوافق مع القائمين على القمة لمجرد الدعاية والفرقعة الإعلامية؟
هيئة التنسيق الوطنية: سباحة ضد التيار
يعتبر كثير من المتتبعين للشأن السوري بأنّ معارضة الداخل السياسية التي تتزعمها الهيئة التنسيقية هي اكثر المعارضات السورية واقعية فهي ملتزمة باستقلاليتها السياسية والتمويلية وترفض أن يقع توجيهها من الخارج تحت ضغط المال أو المحاور حيث يقول هيثم مناع أحد قياداتها البارزين في الخارج إن معارضتهم ترفض «من يريد أن يملي على السوريين ما يفعلون وأن يجبرهم على فعل ما يريدون وما لا يريدون وأن يتحولوا لإمعات»، كما يحدد حسن عبد العظيم أحد قياديي الهيئة التنسيقية بعض النقاط التي تميزهم عن معارضة الخارج، أولها أنهم يؤمنون بالتغيير السلمي وينبذون كل اشكال العنف، وثانياً أنهم يعملون في النور والعلانية ولا يعتمدون السرية حيث يقول «ليس لنا ظاهر وباطن»، ثالثاً أنهم يؤمنون انّ على معارضة الخارج أن تكون جزءا من معارضة الداخل لا العكس.
ورغم أن بعض قيادات الهيئة التنسيقية يقول بأنهم استطاعوا تجميع اكثر من سبعين بالمئة من معارضة الداخل التي تؤمن بالحل السلمي، إلا أن هذا التوجه يجد صعوبات تكاد تجعله يجدف ضد التيار، منها انّ الاطراف الاقليمية والتي لا تقبل إلاّ بالسياسة التدميرية أدخلت المجموعات المسلحة الى سوريا وتصرف عليها الأموال الطائلة وليست مستعدة للرجوع الى الوراء بل إنها مستمرة في خيارها المسلح مهما كلفها من مال ووقت. وما عساها ستخسر؟ المال «متلتل» وهناك متطوعون سوريون وأجانب مستعدون لتدمير سوريا بالنيابة.
بين هؤلاء واولئك في المعارضة، تنتشر مجموعات صغيرة لا انتماءات حزبية لها وهي من كل المشارب السياسية والفكرية، اغلبها يبحث وبدون مواربة عن السلطة لا أكثر ولا أقل، وهم في ذلك سائرون في ركاب كل من يمول ويوالون كل من يضمن لهم النفقات والسفرات والمؤتمرات فيسبّحون بحمده بكرة وعشياً.
يعمل البعض من المعارضة السورية ضمن توافقات اقليمية ودولية على التقسيم البارد لسوريا، ويبدو ان المنطقة مقبلة في المرحلة القادمة على صراعات نأمل أن تُحكّم جميع الأطراف العقل لتُجنب شعوب المنطقة مزيداً من ويلات الحروب. أخيراً لم يبق لنا إلاّ الدعاء بأن يسلم الله المنطقة ويحفظها بما حفظ به الذكر الحكيم ويسلم اهلها من كل مكروه.
Leave a Reply