كانتْ موجةُ شعرِ الحداثةِ هي السِمَةُ البارزة للنتاجِ الشِعرِيِّ الإبداعيّ طيلة سنواتِ التسعينات. وكان الأدباءُ الشباب قد قطَعوا شوطاً بعيداً في ترسيخِ ذلك الإتِّجاه. لقد أحسَسْتُ حينَ وجدتُ نفسي موغِلاً في عمقِ ذلك الوسط وغائراً في أجوائهِ الشعرِيّةِ الساخنة، بأَّنَّ نتاجيَ الشِعريّ الذي واظبْتُ على نشْرِهِ بالتعاقُب لمْ يلقَ الإهتمامَ حّتّى ولو بِحَدِّهِ الأدنى مِنْ لَدُنِ أغلبِ شعراءِ الحداثةِ العراقيّين، أولئكَ الأفذاذ، وخاصّةً بعدَ أنْ توَطَّدَتْ علاقتي بهِم إلى مصافِّ الصداقةِ والصداقةِ الشخصيّة. كما أنُّه كانَ لِصيتِ الشعرِ العمودِيّ بغِيابِ أساطينِهِ عنْ ساحةِ العراق وعلى رأسِهِم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، وقْعَ الخيبةِ، إذْ أنَّ ظهورَ أيِّ شاعرٍ عموديٍّ في تلك الفترةِ كانَ يعني بأنّهُ مُرَشَّحٌ لِدَبْجِ القصائدِ في مديحِ القائدِ الضرورة.. كذا، خاصةً وإنّ تكريمات رئاسةِ ديوان رئاسةِ الجمهوريّة كانتْ مقتَصِرَةً على هذا النوع من الشعر، وهذا الموضوع بالذات مهما بلغَتْ مستَوَياته الفنّيّة والأدبيّة من درَجاتِ التدنّي. كما كانتْ أبوابُ الإذاعةِ والتلفزيون مشرَّعَةً على مِصْراعَيْها لأصحابِ مثلِ هذا التوجُّهِ والنهجِ الشعرِيَّيْن.
ولمّا كانتْ قناعاتي الفكرِيّة لاتنسجمُ مع مثلِ هذا التوَجُّه، على الرغمِ من أنّ أغلب الشعراءِ العمودِيّين من المنضوين تحت لواءِ ذلك التوجُّهِ كانوا قد أصبحوا من أصدِقائي أو من أصدِقائي المقرَّبين، وكم شهِدَ هذا الكتِفُ من مسيلِ دموعٍ ساحتْ عليه آخرةَ اللّيلِ إفصاحاً عن التأنيبِ أو تعبيراً عن المآلِ المأساوِيِّ المُزْدَوَج على المستَوَيَيْن الحياتيِّ والفِكْريّ.
وفي ليلةٍ تنّورِيّةٍ من ليالي آبِ اللّهاب وبعدَ قِراءتي لديوانِ الشاعرِ الإسبانيّ أوكتافيو باث تطاوحَتِ الأجواءُ الشِعرِيّةُ في مُخَيّلَتي، فتكَثُّفَتْ في خمسةِ عشر نصّاً شِعرِيّاً استغْرَقَتْ طيلةَ تلك اللّيلة كنتُ أتنّقّلُ خلالَها بين نصٍّ وآخر، أكتُبُ في هذا لأنقطعَ إلى ذاك، ثمَّ أعاودُ التكمِلةَ حتّى فرغْتُ من جميعِها بُعَيْدَ مطلعِ الفجر وانتِشار خيوطِ الصباح مِلءَ الأفُق. وكُنْتُ قد منَحْتُها عنوان «قصائد إلى أوكتافيو باث».
في اليومِ اللاّحق حَمَلْتُها إلى صديقي الشاعر حسين حسن في مقهى «حسن عجمي». وحين اطَّلعَ علْيْها طلبَ منّي إيداعَها لديه لغايةِ اليومِ التالي. وحينَ التقَيْتُهُ في الموعدِ المقرَّرِ فاجأني بكُرّاسٍ على شكلِ كُتَيبٍ أنيقٍ من ورَقٍ شبه سميك ذي لونٍ يميلُ إلى لونِ الذهب وبحجمِ الكفّ. كانَ ذلك الكُتَيْب يضُمُّ تلك النصوص حيثُ تلطّفَ كما شرَّفَني بِطِباعتِها إذ كانَ يُجيدُ الطباعةَ على آلةِ الحاسوب حديثة العهد في العراق على ندرة وجودِها، ودونَ أنْ أكلِّفهُ بذلك، بلْ أنّي كنتُ أجهلُ تماماً إمكانيّتَهُ على الطباعةِ جملةً وتفصيلاً.
في تلك الحقبةِ الزمنيّة كان أحد أقاربي يمتلكُ مزرعةً خارج بغداد في ضاحية الغالبيّة قربَ الخالص نُقَضّي فيها عطلةَ نهايةِ الأسبوع، بعد أن فقدْنا متعةَ السياحة الصيفيّة في ربوعِ كردستان الحبيبة شمال العراق، حيث أصبحَ السفرُ إليها مستحيلاً بعد أحداث حربِ الخليجِ الثانية وإعلان منطقةِ الحظرِ الجوّي من قبلِ دولِ التحالف. ولقد قضّيْنا أسبوعاً كاملاً في مزرعةِ صاحبي إبّانَ تلك الأيّام من شهر آب 1994.
وبعدَ عودتي من تلك السفرةِ فوجِئْتُ بِضَجَّةٍ صاخِبَةٍ في الوسطِ الأدبيّ..
التتمة في العدد القادم..
Leave a Reply