لطالما تساءلت، في السنين الماضية التي قضيتها في الولايات المتحدة، عن سبب نجاح «المحامي الإسرائيلي» في أميركا بالدفاع عن جرائم حرب تقوم بها إسرائيل على مدار عقود من الزمن، بينما يتعثّر دور «المحامي العربي» عموماً، و«الفلسطيني» خصوصاً، في الدفاع عن قضيةٍ عادلة ترتبط بكل المبادئ والقيم التي يتفاخر الأميركيون بحملها والحديث عنها. فالقضية الفلسطينية تُجسّد جملة مسائل تشمل مبادئ حرية الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها وفي مقاومة الاحتلال، وهي أيضاً قضية إنسانية فيها إجحاف وإهمال لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّروا من وطنهم وقراهم وعانوا ويعانون التشرّد وهدم البيوت ومصادرة الأراضي من قِبَل محتلٍّ ما زال يطمع بالمزيد، وهي أيضاً مسألة دينية حيث يمارس الاحتلال تهويد الأراضي المقدّسة، الإسلامية منها والمسيحية.
ورغم كلّ هذه الأبعاد الهامّة للقضية الفلسطينية يتعثّر دور العرب والفلسطينيين في المجتمع الأميركي، ويتواصل ويمتدّ حبل الكذب والتزوير للحقائق من قِبَل الجماعات المؤيّدة لإسرائيل. فأين هي المشكلة!؟
بدايةً، فإنّ مقارنة حالة العرب في أميركا بحالة اليهود الأميركيين، هي مقارنة خاطئة. فالواقع أنّ «العرب الأميركيين» هم حالة جديدة في أميركا مختلفة تماماً عن الحالة اليهودية. العرب جاؤوا لأميركا كمهاجرين حديثاً من أوطانٍ متعدّدة إلى وطنٍ جديد، بينما اليهود في أميركا هم مواطنون أميركيون ساهموا بإقامة وطنٍ واحد (إسرائيل) في قلب المنطقة العربية، أي عكس الحالة العربية والإسلامية الأميركية وما فيها من مشكلة ضعف الاندماج مع المجتمع الأميركي.
حالة العرب في أميركا مختلفة أيضاً من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية، فكثيرٌ منهم أتوا مهاجرين لأسباب سياسية واقتصادية، وأحياناً أمنية تعيشها المنطقة العربية، ممّا يؤثر على نوع العلاقة بين العربي في أميركا وبين المنطقة العربية. بينما حالة العلاقة بين اليهود الأميركيين وإسرائيل هي حالة من شارك في بناء هذه الدولة، وهو ممّول لها وليس مهاجراً (أو مهجّراً) منها. أيضاً، ليست هناك حالة تنافس موضوعي على المجتمع الأميركي بين «المحامي الإسرائيلي» وبين المدافعين عن عدالة القضية الفلسطينية، إذ غالبية المؤسسات الأميركية غير محايدة في «المسألة الفلسطينية»، لكي يتمّ التنافس في الوصول اليها.
كذلك، فإنّ اللوبي الإسرائيلي في أميركا يتعامل مع علاقة واحدة خاصة، هي علاقة إسرائيل بأميركا، بينما تتعامل المؤسسات العربية-الأميركية مع علاقاتٍ عربية متشعّبة ومختلفة بين أكثر من عشرين دولة عربية وبين الولايات المتحدة. فالعرب الأميركيون يتعاملون مع واقع عربي مجزّأ، بينما يدافع اللوبي الإسرائيلي عن كيان إسرائيلي واحد.
من ناحية أخرى، فإنّ العرب الأميركيين يعانون من أزمة تحديد الهويّة ومن مشكلة ضعف التجربة السياسية، وهذا ما لا نجده عند اليهود الأميركيين. لقد جاء العرب إلى أميركا من أوطانٍ متعدّدة ومن بلاد ما زالت الديمقراطية فيها تجربة محدودة، إضافةً إلى آثار الصراعات المحلية في بلدان عربية على مسألة الهويّة العربية المشتركة وعلى علاقات العرب بعضهم ببعض. فكيف يمكن بناء جالية عربية فاعلة في أميركا أو في أيِّ مجتمعٍ غربي إذا كان أفراد هذه الجالية رافضين لهويّتهم العربية ومنقسمين على أنفسهم؟! وكيف يمكن مخاطبة الآخر غير العربي ومحاورته بالقضايا العربية العادلة إذا كان الإنسان العربي نفسه لا يملك المعرفة الصحيحة عن هذه القضايا، ولا يجد لديه أيَّ التزامٍ تجاهها؟! وكيف يمكن للعرب الأميركيين أن يواجهوا ما أمامهم من تحدّيات إذا كانت هويّتهم الثقافية المشتركة موضع شكٍّ أصلاً، يصل أحياناً إلى حدِّ رفضها والاستعاضة عنها بهويّاتٍ ضيّقة تسمح بسريان مرض الانقسامات والصراعات داخل مجتمعات الجالية العربية؟!.
وعلى الرغم ممّا تحقّق للجالية العربية في الولايات المتحدة الأميركية من تقدّمٍ ملحوظ في العقود الثلاثة الماضية، وظهور العديد من المنظّمات النشطة التي جعلت للعرب الأميركيين صوتاً سياسياً يُسمَع، فإنّ عمل العرب الأمريكيين ما زال عاجزاً عن التأثير في الكونغرس الأميركي المفتوح دائماً لاحتضان اللوبي الإسرائيلي.
لكن نجاح «اللوبي الإسرائيلي» لا يعود سببه حصراً إلى خبرة اليهود الأميركيين بالعمل السياسي في أميركا منذ نشأة الأمَّة الأميركية، أو لكونهم أكثر تنظيماً وعطاءً بالتطوّع والمال، فالعنصر المرجّح لكفّة «اللوبي الإسرائيلي» إنّما سببه الأساس هو أن السياسة الأميركية نفسها لم تكن طرفاً محايداً يتنافس عليه العرب من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. فأميركا أسهمت منذ البداية في الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وزوّدته وما زالت بكلّ إمكانات التفوّق النوعي على الدول العربية. ومن المهمّ، على الجانب الرسمي العربي، إعادة النظر بمقولة: «إنّ أميركا غير عادلة في المنطقة لأنّ اللوبي الإسرائيلي يتحكّم في سياستها الخارجية». بينما الواقع هو أنّ أميركا لها مصالحها الخاصة الإستراتيجية في المنطقة، وقبل وجود إسرائيل. وهي، أي أميركا، استخدمت الوجود الإسرائيلي لتحقيق هذه المصالح الأميركية مقابل مساعدات لإسرائيل. فأميركا كانت تحتاج لإسرائيل حيث لا تريد هي -أو لا تستطيع- أن تكون مباشرة (أي مفهوم الوكيل أو الأجير في قضايا محددة). فتصاعُد الدعم الأميركي لإسرائيل ارتبط بتصاعد السيطرة الأميركية على المنطقة بعد تقليص نفوذ الآخرين (الحلفاء والأعداء).
حتماً، فإنّ ضعف الهوية العربية يساهم في ضعف دور الجالية العربية في أميركا وفي مسؤوليتها عن نشر المعرفة الصحيحة بالقضايا العربية. ثمّ إنّ انعدام التوافق على «الهويّة العربية» لدى المهاجرين العرب سيجعلهم يتحرّكون وينشطون في أطر فئوية محدودة تقللّ من شأنهم وتأثيرهم، كما تغشي بصيرتهم عن أولويّات العمل المطلوب، فينحصر الهمّ لدى بعضهم بـ«الآخر» من أبناء الوطن المشترك أو الدين الواحد. وفي الأحوال هذه، لا يمكن أن تكون هناك جالية عربية واحدة، أو جالية مسلمة واحدة، أو عمل مشترك مؤثّر في عموم المجتمع الأميركي أو الغربي عموماً أيضاً.
هل يعني كل ما سبق قوله أن لا أمل في استحواذ تأييد غالبية الرأي العام الأميركي لصالح عدالة القضية الفلسطينية؟. الجواب يتوقّف على مدى «تأهيل المحامي الجيد»، وعلى توفّر الإمكانات المادية اللازمة لكسب هذه القضية ولتصحيح جملة مفاهيم عنها داخل المجتمع الأميركي. لكن أجد أنّ الدور الغائب الآن، والذي يبحث عن مؤسسة شاملة وفاعلة، هو الدور الفلسطيني الذي لا يتحقّق بشكل جيد داخل الولايات المتحدة الأميركية. ففي أميركا مئات الألوف من الفلسطينيين، وهم بمعظمهم الآن من المواطنين الأميركيين، وفيهم كثافة كبيرة من المهنيين الناجحين جداً في أعمالهم الخاصة، بل إنّ معظم المؤسسات والجمعيات العربية والإسلامية ينشط فيها بدرجة أولى من هم من أصول فلسطينية. وهناك أيضاً العديد من المتموّلين الفلسطينيين المقيمين في الولايات الأميركية. وهذه كلّها مواصفات لتشكيل قوة سياسية واقتصادية فلسطينية فاعلة لو جرى الجمع أو التنسيق بين عناصرها المبعثرة طاقاتها والمشتّتة أعمالها.
الفلسطينيون، كما العرب عموماً في أميركا، ينجحون في أعمالهم الفردية ويتعثّرون كثيراً في مؤسسات العمل الجماعي المشترك. قد يكون مردّ ذلك هو الانقسامات السياسية الحاصلة حول قضايا عربية مشتعلة الآن، أو قد يكون السبب في قلّة الخبرة في العمل المؤسساتي، أو في طغيان «الأنا» على «نحن»، أو السلبية تجاه العمل المنظم المشترك، أو عادات ومفاهيم تعتبر نجاح «الآخر» وكأنّه فشل للنفس!.
وصحيح أن في الولايات المتحدة العديد من المراكز والمؤسسات والجمعيات الناشطة بأسماء فلسطينية، وبعضها بأسماء قرى ومدنٍ فلسطينية، لكن لا توجد حالة تنسيق وتفاعل دائم بينها مما يجعلها تجيد «اللحن المنفرد» وتعجز عن العمل المشترك بمفهوم «الأوركسترا».
ومهما كانت الأسباب وراء غياب «العمل الفلسطيني المنظّم المشترَك» على الساحة الأميركية، فإنّ ذلك أصبح حالة سلبية خطيرة لا يجوز استمرارها، خاصّةً في مرحلةٍ أضحت فيها القضية الفلسطينية مُهمّشةٌ دولياً وعربياً، بينما تواصل إسرائيل الإستيطان والتهويد في الأراضي المحتلّة.
وربّما من الواجب أيضاً أن يقترن بناء «المؤسسة الفلسطينية» الفاعلة في أميركا بتنسيقٍ مفقود حتّى الآن مع العديد من الشخصيات والهيئات الأميركية غير العربية (بما فيها أيضاً من شخصيات وهيئات أميركية يهودية)، التي تتحرك في عدّة ولايات دعماً للقضية الفلسطينية ورفضاً للاحتلال الإسرائيلي، لكنّها لا تجد الدعم الكافي لها من العرب والفلسطينيين في أميركا وخارجها.
حبّذا لو يسأل كلُّ فلسطينيٍّ في أميركا نفسه صباح كل يوم: كيف سأخدم قضيتي الوطنية اليوم قبل أيِّ قضيةٍ أخرى وقبل أي مصالح مهنية أو شخصية، عندها سيجد كل فلسطيني في أميركا ضرورة قصوى للتجمّع والتنسيق مع باقي الفلسطينيين في مؤسسةٍ قد حان وقت ميلادها.
Leave a Reply