توالى نشْرُ القصائد تحت عنوان «المُتأمِّل بينَ العينِ والنهر» طيلة الشهورِ والسنواتِ التي أعقَبَت آب 1994 وضمنَ الشكلِ أو الإطار الخارجي الذي اتّخَذَ التسمِيَةَ الشائعة «قصيدة النثر». حتّى انتظَمَت في مُجمَلِها لتصبَحَ مجموعةً شِعرِيّةً حرَّضني على نشْرِها صديقي الشاعر محمد تركي النصّار، ولمّا تباطأتُ عن نشرِها إذ استهْجَنْتُها في حينِهِ، صَرَخَ بوجهي – وكانَ جادّاً- : «إنّها مجموعةٌ مُهِمّة».
ولأنّني عِشْتُ تجربةً ضخمة مع آرائهِ النقدِيّة في الشعر بكافّةِ أشكالِهِ وخاصّةً كمُستَمِعٍ للحوارات الحامِية التي كانتْ تدورُ يومِيّاً بينهُ وبينَ الشاعر الفذّ خالد مُطلك على حدائقِ اتّحادِ الأدباء أو في قاعةِ ناديه الشتوِيّة. ولمْ تخلُ جلساتُنا من عنصرِ التفكُّه، ففي إحدى الجلسات بُعَيْدَ عودتي من مزرعةِ الغالبيّة أخبرتُ صديقي الشاعر خالد مطلك بأنّي أُعاني من أزمةِ «النَصّ»، فأجابني على الفَوْر بأنّهُ يُعاني من أزمةِ «النُصّ».. ياه.. كِدْتُ أنسى تلك الجملة لولا أنّها ترَسّخَتْ في ذاكِرةِ صديقِنا العزيز المُشتَرَك الشاعر الفلسطيني العراقي أحمد يعقوب.
كانت الصفةُ الغالِبة على نتاجات الشعراء خصوصاً والأدباء عموماً في تلكَ الحِقبة تتلخّص في «استبطانِ الفجائع» بدءاً مِن هرمِ السلطة المُسَبِّبَة لانتِشارِها وليسَ انتِهاءً بمعاناةِ المسحوقين والجِياعِ والمُضطَهَدين المبثوثين في خارطةِ المجتمعِ العراقيّ على العموم، كما كان النُقّاد يصِفونها، إضافةً إلى المُصطَلَحِ النقدِيِّ الشهير «مُشاكسَة الواقع»، في إشارةٍ إلى فقدانِ العدالةِ في تمشِيَةِ أمورِ الناس، كانَت السلطةُ في وادٍ وطبقات الشعبِ العريضة في وادٍ آخر.
وقد صاحبَ تلك الفترةَ إنكِسارُ حاجزِ الخوف أمام أقلامِ الشُعَراء، فكتَبَ الصديقُ الشاعر كريم الزيدي قصيدةَ «الجنرال» في إشارةٍ شبه صريحة إلى استهجان سياسة الصنم الذي ملأ الشوارعَ والساحات بصُوَرِهِ وتماثيلِهِ الفجّة والمُمِلّة ملطوشةٌ بها نياشينُه المُزَيَّفة، كما كتبَ الشاعر حميد قاسم قصيدةً يُفصِحُ فيها عن التمثالِ النُحاسيِّ على ماأتذَكّر في إشارةٍ هي الأخرى إلى استهجانِهِ بصاحبِ تلك التماثيل، وقد اعتراهُ الخوف في حينِهِ كما أسرّني بذلك مِن تأويل النَصّ قانونِيّاً والذي يُفضي فيما لوْ حدثَ ذلك إلى يُتْمِ ولدِهِ العزيز مجد. وهوَ أمرٌ تتوفّرُ لهُ كلُّ وسائلِ اليُسْر لوقوعِهِ لولا مبدئيّة أصدِقائنا الأدباء المحسوبين على خطِّ النظام واحتِرامهم للرأيِ الآخر، حقّاً لقد كان أولئكَ الأدباءُ الأفذاذ سدّاً منيعاً في حماية أدباء الرأيِ الآخر، وليس ذلك بغريبٍ عليهم إذا عرفنا وبالتجربة المُعاشة أنّ جميعَ الأدباء العراقيّين بمختَلَفِ انتماءاتهم وإثنيّاتهم يمثِّلون النموذجَ الأمثل في طبقاتِ وشرائح الشعبِ العراقيّ للتعايُش والتآلُف والأخوّة النزيهة، لمَ لا وهم أدوات الحرف ووعاء الكلِم؟
وقد كتبَ الصديقُ الروائيُّ المبدِع طه حامد الشبيب روايتَهُ الشهيرة الأولى «الأبجدية الأولى» والتي نُشِرَتْ على حلقات بتزكية من شيخِ النُقّاد الراحل الكبير علي جواد الطاهر، وذلك في الصفحة الثقافيّة لجريدةِ الجمهوريّة التي كانَ يشرف على تحريرِها الشاعر عبد الزهرة زكي، تلك الرواية التي تناولَت عبرَ التحليلِ السايكولوجي، السلوكِيّات الدموِيّة لحاكمين مُفْتَرَضين وكأنّ بينها وبين حقيقةِ الواقع كما بينَ «النيجاتيف والبوسوتيف»، وقد أشرْتُ فيما سبق إلى المجموعة القصصيّة «كائنات صغيرة» لصديقي القاصّ المبدِع صلاح زنكنة، والتي تنطوي على محَصِّلة واحدة لكنْ بأسلوب ومضامين مختَلِفة. وكذلك أشرتُ إلى قصصِ صديقي القاصّ المبدِع محمد سعدون السباهي في تبوُّلِ قطعانِ الماشية والأغنام حولَ قصْرِ امبراطورِ زمانِهِ «طاق كِسْرى». كما نحى قبلهُم صديقي القاصّ الكبير عبدالستّار ناصر ذات المنحى المخيف في العديدِ من قصصِهِ حيثً لمْ تستطعْ انْ تصُدَّهُ عن الولوجِ في آفاقِ هذهِ المضامين، سنةٌ كاملة من السجنِ الإنفراديّ الرهيب بسببِ كتابتِهِ لقصّةٍ قصيرة كانت بعنوان «سيّدنا الخليفة»، ذلك السجن الذي أكَلَ بين جدرانِه أجمل سنوات شبابِهِ النضير. وكان يمكنُ أنْ يُخُطَّ اسمُهُ في عِدادِ الموتى لولا الحملة التي قادتْها الفنانة العربيّة الرائدة فيروز بمعيّة الأدباءِ والفنّانين العرب من أجلِ إطلاقِ سراحِهِ الذي حصُلَ على يد كولد فالد هايم أمين عام الجمعِيّة العامّة للأممِ المتّحِدة في زيارةٍ مُسْتَعجَلة إلى العراق قامَ بها في حينِهِ وأشْرَفَ شخصِيّاً على إطلاقِ السراح.
وكتبَ القاص علي السوداني قصّةً قصيرةً أحلّ نفسَهُ فيها محلَ رئيس الجمهوريّة في تفاصيل يجدُها القاريء ضمن مقالتِنا «عُذراً وانتِصاراً يا علي السوداني».
كما كتبَ الشاعرُ الصديق ناجح ناجي قصيدةً عن «وسادةِ الحجر» في تأويلٍ شبه صريح لقسوةِ الواقع وصلابةِ الحياةِ اليوميّة وصعوبة اجتيازها المعاشي، والتي أثارت حنقَ صديقي القاصّ محمد سعدون السباهي (هم حياتنا حجريّة واجمالة ناكل حجر وننام على حجر؟ أنتم الشعراء ألا تُجيدون التعامُلَ مع الأزهار ورِقّة النسيم وجماليّات الظواهر المبثوثة في الكونِ الكبير) و.. ياه.. كم كان ردُّ الشاعر ناجح هادئاً ومؤدَّباً وخجولاً.. كانَ دفاعُهُ عن نَصِّهِ موفَّقاً غايةَ التوفيق وقد اصطففتُ إلى جانِبِهِ، رغم عدم رسُوّ السباهي على القناعة التي تُرضيه.
البقية في العدد القادم..
Leave a Reply