عشرونَ عاماً.. بينَ أيّامِها
تُطاوِحُني رياحُ الغُربة
مِنْ بلَدٍ هجينٍ إلى بلدِ غريب
لَمْ أرَ نجماً مُتَلالِئاً
يُبَدِدُ وحشةَ السكون
أوْ مطراً هاطِلاً
يُندّي يباسَ الروح
رغمَ انتِشارِ النجومِ على صفحةِ السماء
ورغمَ الأمطارِ الكئيبةِ في بلدِ العجائب
غدَوْتُ مُشَرَّداً بين المحيطين
أنادي: أينَ أهلي؟
عشرونَ عاماً وأنا جنب حقائبي
تُذيبُني اللّوعةُ في محطّةِ الإنتِظار
أحدِّقُ صوبَ السماء
مُحاوِلاً استِعادةَ كينونتي
أضحكُ أحياناً.. أبكي.. وأصرخ
وأحياناً لا أتَأمَّلُ شيئاً
ولا أتذكّرُ شيئاً..
سوى ترديد الصدى
مالئاً أجوائي
إذْ أنادي: أينَ أهلي؟
كُلّما تَفَلَّتَ مِنْ ذاكِرَتي
ربيعُ بلدتي (الكريعات)
تشَبَّثْتُ بهِ كالمجنون
إنّهُ الربيعُ الهيولِيُّ حيثُ يحُفُّ الأجواء
دونما تكلُّفٍ أو اصطِناع
إنّهُ ربيعُ تلكَ الطبيعةِ الأليفةِ الغنّاء
هواؤهُ الرهيفُ الهفيف
كانَ يمرِّرُ حريرَهُ الأثيريّ
مُداعباً ياقةَ قميصي
مُمَسِّداً بنسيمِهِ العليلِ بشَرَةَ وجهي
باعِثاً أنغامَ الإنشِراحِ في صدري
فأحسُّ خفقةَ الوجودِ التي يرافِقُها الفرح
يُحَرِّرُ من بينِ الأغصانِ المُتَمايِلة
لِأشجارِ البرتقالِ
عِطْرَ القِدّاح
مالِئاً رئتي بأريجِهِ
مثلما يتماوجُ عِطْرُ طلْعِ النخيل
عاصِفاً بين رقصاتِ السعف
كأنَّ حاسّةَ الشمِّ لديّ
لها عرسٌ كلَّ عام
حتّى إذا تحدَّرْتُ
نحوَ مقاهي السعفِ وجريدِهِ
تضاحِكُ الطبيعةَ في إلفتِها
بدخانِ المشاوي
وحديثِ الشيوخِ الكِبار
شارحةً على الهواءِ الطلق
طيبةَ أهلي
مُعيدَةً إليَّ
جواهرَ الأيّامِ المفقودةِ من حياتي
فأصرِخُ من بعيد: أينَ أهلي؟
بفوطتِها السوداء رحلَتْ أمّي
وبصفحاتِها البيض
لِيَلْحَقَها أبي.. إلى جِنانِ المِجَنّة
وادي السلام
المحطّة المُفضِية إلى أعالي الجِنان
لِيَسرِعَ اللّحاقَ بالركْبِ
إخواني الثلاثةُ زينةُ الكواكبِ المُضيئة
وزينة شبابِ الكريعات
لمْ يعُدْ لي مِنْ بلَدي
سوى الذكريات الأليمة
فأفزُّ من منامي صارِخاً: أينَ أهلي؟
عشرونَ عاماً أسائلُ نفسي
أينَ إخواني
فيما قتَلوهم؟
فتجُرُّني الحسرةُ والحيرَةُ بعيداً
أسألُ عنهم مَنْ؟
إنّهم كالملائكةِ….
يتسَلّلون إلى قلبي المُثقَلِ بالجراح
يتربّعونَ مِلءَ ساحتِهِ
أحَدِّثُهُم ويجيبونني
فأسألُهُم: أينَ أهلي؟
وأسائلُ الصدى هلْ مِنْ خبرٍ
يُهَدِّيءُ رَوْعَ نفسي؟
أنظُرُ إلى ما لدَيَّ من صُوَر
فلا شيء يُثْلِجُ صدري المتَأجِّج
مثلَ كورةِ النار
وأصرخُ: أينَ أهلي؟
يأخُذُني المَشْيُ على
شاطيء نهرِ «بتهومك» (1)
بتؤدةِ مُسْقَطٍ في يدِهِ
فأهجُرُهُ راكِضاً بذاكِرَتي
إلى هوائنا العليل جنبَ شاطئنا الجميل
في زوِيّةِ الكريعات
إلى حيثُ مرابِعِ الطفولة
إلى حيث أيّامِ اللّعبِ والمرَح
فوقَ رِمالِهِ الذهبيّةِ كلَّ يوم
إلى حيثُ هناك..
تتلامعُ قُبابُ الجوادَيْن
على صفحاتِ مياهِ دجلة الخالد
تُقِلُّنا إلى ضريحيهما قوارِبُ «العِبْرة» (2)
كانَ الشهيدُ «حمد علوان الجبوري»
سارِيتَها
مثلما كانَ علَماً في نُبْلِ الإنسان
كانَ دوَرانُ المجاديف
دولابَ هواءِ الإحساس في حركةِ الوجود
وكانَ ارتطامُ المجاديفِ بانسِيابِ المياه
ترجيعَ سيمفونيّةٍ ذاتِ حفيفٍ
لاشبيهَ لهُ بغيْرِ تلكَ البِقاع.
Leave a Reply