بوسطن، واشنطن – طبقت السلطات الأميركية عملية أمنية واسعة تلت تفجيري ماراثون بوسطن في 15 نيسان (أبريل) اللذين أسفرا عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 264 آخرين. فبعد تحديدها صورتين للمشتبه بهما، شنت القوى الأمنية حملة واسعة أجبرت خلالها سكان أجزاء واسعة من مدينة بوسطن وضواحيها على البقاء في منازلهم. وفي كلمة متلفزة قال الرئيس الأميركي باراك أوباما «أغلقنا صفحة مهمة من هذه المأساة»، رغم الإشارة إلى الكثير من التساؤلات التي لا تزال مطروحة دون أجوبة عن دوافع الهجوم، وعما إذا تلقى المهاجمان دعماً خارجياً لتنفيذ مخططهما.
وبالفعل تمكنت السلطات، وبسرعة فائقة، من تحديد موقع الشابين الشيشانيين، وقتلت المشتبه به تامرلان تسارناييف (26 عاماً) في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة بعد أيام، وأصيب الآخر جوهر (19 عاما) بجروح وألقي القبض عليه بعد مطاردة، وهو في حالة طيبة بالمستشفى ووجه إليه الاتهام في جريمتين تصل عقوبتهما القصوى إلى الإعدام. ومنذ ليل الجمعة الماضي طاردت شرطة ولاية ماساتشوستس وعناصر فدراليون المشتبه بهما بعدما حددت ملامحهما من خلال صور وتسجيلات فيديو التقطتها كاميرات في شارع بويلستون في وسط مدينة بوسطن. وخلال الليل قتل ضابط شرطة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالرصاص داخل حرم المعهد، كما أصيب شرطي من هيئة النقل، وقام المشتبه فيهما بسرقة سيارة وخطف سائقها لمدة قصيرة ثم بإطلاق سراحه.
جوهر وتامرلان |
تامرلان، الشقيق الأكبر، أصيب في تبادل لإطلاق النار خلال المطاردة الليلية، ونقل الى المستشفى حيث فارق الحياة. أما جوهر، فنجح بالفرار من قبضة الشرطة، ما حوّل مدينة بوسطن وضواحيها الى منطقة أمنية مغلقة طوال يوم السبت الماضي. فتّش عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي منازل ضاحية ووترتاون منزلاً منزلاً بحثاً عن جوهر، وطلبت الشرطة من السكان البقاء في منازلهم وحذرتهم من «فتح أبواب منازلهم للغرباء»، كما أوقفت خدمات النقل في خليج ماساتشوستس «الى أجل غير مسمى» طيلة فترة المطاردة، كما أغلقت المدارس الرسمية.
وكان المحققون قد نشروا صورا وتسجيلات فيديو للشابين. وفي تسجيل مدته 30 ثانية ظهر تاميرلان وجوهر وهما يسيران على مقربة من بعضهما البعض بفارق خطوات معدودة في شارع بويلستون في وسط بوسطن. وكان أحدهما يرتدي قبعة بايسبول داكنة ونظارة شمسية، والاخر يرتدي قبعة «بيسبول» بيضاء أدارها إلى الخلف.
وذكر الطبيب الذي يعمل في مركز بيث اسرائيل ديكونيس الطبي في بوسطن أن أحد المشتبه فيهما «وصل الى المستشفى ليلاً مصاباً بتوقف في وظائف القلب، وكانت هناك آثار إصابات أكثر من مجرد طلقات رصاص».
وبعد ساعات على كشف هوية المشتبه فيهما نقلت وسائل إعلام أميركية بعض ما نشره جوهر تسارناييف على أحد مواقع التواصل الالكتروني، ومنها «روابط لمواقع إسلامية، ومواقع أخرى تدعو الى استقلال الشيشان». ويقول جوهر عن نفسه على صفحته إنه متخرّج من إحدى المدارس الحكومية في كامبريدج بماساتشوستس عام 2011. ويذكر أيضاً أنه ارتاد مدرسة ابتدائية في ماخاتشكالا عاصمة إقليم داغستان المتاخم للشيشان، وأنه يتحدث الانكليزية والروسية والشيشانية. وفي الخانة المخصصة لوجهة نظره تجاه العالم كتب «الإسلام»، اما عن أولوياته الشخصية، فكانت «الحياة المهنية والمال».
جيران جوهر وأساتذته في المدرسة، أكّدوا أنه «ولد مهذّب وطيّب»، ونفوا أن يكون الشاب قد أظهر أي إشارة عدائية طيلة فترة معرفتهم به، كما اندهش زملاؤه من تورّطه في عمل إرهابي «لأنه كان شاباً طبيعياً جداً يحبّ السهر والتسلية وكان هادئاً». وكشف بعض الأصدقاء أن جوهر عمل كـ «عامل إنقاذ» لفترة ولم تسجل بحقه أي شكوى تذكر. أما الشقيق الأكبر، تاميرلان، فكان طالب هندسة سابقاً، وانتقل الى ممارسة رياضة الملاكمة، وكانت لديه صفحة خاصة على موقع يوتيوب فتحها في شهر آب 2012، حيث أشار الى تفضيله عدداً من التسجيلات الإسلامية.
بريئان؟!
بدورها، قالت والدة المشتبه بهما إنها متأكدة من براءتهما، وعبرت عن ندمها على الانتقال للعيش في الولايات المتحدة. وقالت زبيدة تسارناييف، في مؤتمر صحفي بمخاتشكالا، عاصمة جمهورية داغستان: «نعم أفضل الآن ألا أعيش في الولايات المتحدة، لم ذهبت إلى هناك في الأساس؟ لماذا؟ ظننت أن الولايات المتحدة ستحمينا، وستحمي أطفالنا، وستكون آمنة لأي سبب ولكن ما حدث كان العكس، أخذت ابني بعيدا عني، وأنا متأكدة من أن ولديّ لم يشاركا في أي شيء».
وقد هاجر الشقيقان الى أميركا منذ حوالى عشر سنوات، وعاشا في منطقة كامبريدج في بوسطن وتعلّما في مدارسها وقصدا جامعاتها. والد الشقيقين تسارناييف، أكد بدوره «براءتهما وتوريطهما من قبل الاستخبارات الاميركية في حادثة التفجير». وقال إنزور، إن «ممثلين لمكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية الأميركية جاءوا إلى داغستان واستجوبوه» بشأن ولديه. وكان إنزور يتولى مناصب حكومية رفيعة في جمهورية قرغيرستان السوفياتية السابقة، لكنه عمل في نهاية الأمر في إصلاح السيارات في ولاية ميشيغن الأميركية. وانفصل الوالدان وعادا إلى داغستان بجنوب روسيا، لكن الأم ظلت في الولايات المتحدة حتى حزيران (يونيو) عندما اعتقلتها الشرطة في ناتيك، بولاية ماسوشوستس، واتهمتها بسرقة ملابس نسائية بقيمة 1624 دولارا من متجر.
ثغرات أمنية
وفيما عادت الحياة إلى طبيعتها في شوارع بوسطن تواصل قضية التفجيرين تفاعلها في أروقة القضاء والأمن. فبعد اتهامه باستخدام «أسلحة الدمار الشامل» التي توصله لعقوبة الإعدام، أكد جوهر أن أي مجموعة إرهابية دولية لم تشارك في التفجيرين، بل إن أخاه كان «يحاول ردّ الهجمات على الإسلام»، بحسب ما أفادت شبكة «سي أن أن». ولكن رئيس بلدية نيويورك نقل عن مصادر أمنية لاحقاً أن الأخوين كانا يعدان لاستهداف ساحة تايم سكوير في المدينة بأسلوب مماثل لتفجيري بوسطن.
ونقلت الشبكة التلفزيونية عن مصدر حكومي، طلب عدم كشف اسمه، أن «الاستجوابات الأولية لجوهر أشارت إلى أنه من الممكن اعتبار الشقيقين جهاديين اعتنقا التطرف من تلقاء نفسيهما خارج إطار أي منظمة». وكان تمّ تحديد جلسة أولى لمحاكمة المشتبه به في الثلاثين من أيار المقبل أمام محكمة بوسطن الفدرالية.
وأقرت وزيرة الأمن الداخلي، جانيت نابوليتانو، الثلاثاء الماضي، بأن الولايات المتحدة «رصدت» تامرلان خلال مغادرته الى روسيا العام 2012 ولكن ليس بعد عودته الى أميركا. وقالت نابوليتانو في جلسة استماع في مجلس الشيوخ إن «النظام رصد مغادرته الولايات المتحدة». ولكن بعد خمسة اشهر و13 يوما «ولدى عودته، كانت كل التحقيقات في شانه قد أغلقت» في إشارة منها أنه لم يثر أي شبهات إرهابية.
وقد برزت بشكل لافت معلومات تشير الى أن السلطات الروسية كانت قد حذرت الأميركيين من شبهات تحوم حول تسارناييف الذي قتل، خلال تواجده في روسيا قبل عودته الى الولايات المتحدة.
حيث أبدى الكونغرس رغبته باستجواب السلطات الفدرالية، والجهود تركز على كيفية تعامل مكتب التحقيقات الفدرالي العام 2011 مع المعلومات التي قدمتها الاستخبارات الروسية حول اتجاه تامرلان تسارناييف نحو التطرف ولماذا لم تأخذها السلطات الأميركية بجدية؟ المعلومات الرسمية تفيد أن مكتب التحقيقات الفدرالي استجوب تامرلان لكن لم يجد شيئا مثيراً للشبهات حوله، فطلب من الروس معلومات إضافية من دون الحصول على أي جواب. وبعد بضعة أشهر تواصل الروس مرة أخرى بشأن تامرلان مع وكالة الاستخبارات المركزية من دون إعطاء أي معلومات إضافية. على الأرجح لم يأخذ الجانب الأميركي النصائح الروسية بجدية، لأن عائلة تامرلان طلبت اللجوء بالأصل هربا من السلطات الروسية، ونظراً لتاريخ العلاقة الروسية بالشيشان. لكن السؤال الآخر هو: لماذا لم يتم استجواب تامرلان بعد عودته من روسيا العام الماضي حيث بقي حوالى ستة أشهر قبل عودته في تموز الماضي إلى الولايات المتحدة؟ سجلات سلطات الحدود الأميركية تشير إلى أنها لم تعلم بعودة تامرلان نظرا إلى خطأ إملائي في كتابة اسمه بالانكليزية، وهذا خطأ بيروقراطي يحصل بشكل منتظم. السؤال الثالث هو كيف لم تعلم السلطات بتصرف تامرلان في مسجد في ضواحي بوسطن في الفترة الأخيرة حيث عكس أكثر من مرة مواقف متطرفة وطلب منه الإمام الخروج من المسجد، وبالتالي هل اطلع مكتب التحقيق الفيدرالي شرطة بوسطن على الشبهات المحيطة بتامرلان؟
تداعيات سياسية داخلية
من تداعيات تفجير بوسطن السياسية فقدان الرئيس الاميركي باراك أوباما لقدرة المبادرة في الملفات الداخلية، وبالتالي إعادة تركيز الأنظار على قضية مكافحة الإرهاب التي حاولت الإدارة الأميركية في السنوات الأخيرة العمل عليها استخباريا وبصمت رسمي من خلال «الطائرات من دون طيار».
فمنذ مطلع الأسبوع الماضي، ابتعد الإعلام الأميركي عن تغطية أولويات الرئيس الداخلية وبدأ بتغطية تفجير بوسطن على مدار الساعة. اقتراح قانون الحد من انتشار الأسلحة الفردية سقط في مجلس الشيوخ، واقتراح قانون إصلاح الهجرة بدأ يتهاوى دون أن يسقط، فيما تتوجه الأنظار مجددا إلى تحديات مكافحة الإرهاب والفجوات التي سمحت بحصول تفجير بوسطن. ما عطّل النقاش بشأن قانون الهجرة أن تامرلان تسارناييف، الشقيق الأكبر الذي خطط ونفذ اعتداء بوسطن، كان مهاجرا، الأمر الذي عزز موقف المحافظين الذين يدعمون تشديد قيود الهجرة إلى الولايات المتحدة. وقالت نابوليتانو في شهادتها أمام الكونغرس «نأخذ العبر من هذا الاعتداء كما قمنا بذلك بعد الاعتداءات الارهابية الاخيرة»، مذكرة بان اصلاح نظام الهجرة الذي لا يزال قيد البحث في مجلس الشيوخ سيجعل الالتقاط الالكتروني للمعلومات الواردة على جواز السفر لدى الخروج من الاراضي الأميركية أمرا إلزامياً.
قضية تسارناييف تختصر كل التحديات التي تواجهها إدارة أوباما، إضافة إلى قضية الهجرة. تامرلان حصل على سلاح فردي بسهولة من متجر محلي من دون أن تظهر شبهات حوله. وهناك أيضا عامل التوازن بين مكافحة الإرهاب والحقوق المدنية الذي تسعى الإدارة إلى تحقيقه منذ بداية ولاية أوباما. عملية الشقيقين تسارناييف تسلط الأضواء على الإرهاب المحلي، أي على مواطنين يحملون جنسية أميركية قادرين على صنع قنبلة من مواد يمكن شراؤها وتجميعها داخل الولايات المتحدة. كما يتساءل البعض في واشنطن إذا ما سيكون تفجير بوسطن نقطة تحول، باعتبار أنه من الصعب على أوباما تجاهل هذا التحول خلال ما تبقى من ولايته. لكن يرى آخرون أن حجم عملية بوسطن محدود مقارنة مع ما حصل سابقا، ما يعني أن بعد فترة الحداد واكتشاف ما حصل من ثغرات، قد تعود الأمور إلى طبيعتها والإدارة إلى همومها الرئيسية.
Leave a Reply