ما كان ليلُها الطويل أنيسا؛ لا ولا نظرت إليه وعاءً للتحاور. فقط وجدت فيه انتظاراً لمن سيأتي لأنّه وعدها بمجيئه لا محال، متلفعاً أردية الظلام كسواتر للتخفِّي.. يدخل عليها كقطٍّ بلوامس هلامية وأنفاس حبيسة، وعينين مختلستين. تغلق الباب بمفتاح الخشية وتستدير. ترتمي عليه: تحتضنه/ تشمّه/ تغرز أصابعها بين مفارق شعره، وتنتحب: آآ يا ولدي؛ كلّما خرجت وودّعتني حسبته آخر يومٍ للقاء.
(كانت تعيش الأيام على مائدة الهواجس، متطيّرةً لطرقات الباب المتلاحقة؛ سمعتها تتعاقب عبر سنواتٍ طويلةٍ ثقيلة؛ مُرتعبةً لصوتِ مُحرّك سيارة كلّما هدر عن قرب.. تظنّهم جاءوا كالعادة: عيون ذئبية غادرة/ ألسنة بذيئة داعرة. ينطقون بمفردات الطعن الغادر، ويخطون بأقدام الفتك السادي… تدري أنهم جاؤوا من أوجار الضباع النتنة، وولدوا من أرحامٍ كخضراء الدمن تضجُّ بالقديد والعفن. لا تعتب على من أتى بهم وأولاهم نواصي لم يفتحوا عيناً يوماً على تخومها؛ لكنّها تتأسى على زمنٍ سيُحسب حقبةً وتاريخاً يُدوَّن لها ولأقرانها والأولاد. تردُّ على أسئلتهم الراعفة سُمّاً، إجابات من باب عدم المعرفة.. يستفهمونها عنه: متى أبصرتِه آخر مرّةٍ؛ وأي مكانٍ يُحتملُ التواجد فيه)..
في كلَِ لقاءٍ تجيءُ به كفُّ الأسرار تجده يزداد يفاعةً؛ ويتفاقم اصراراً. يعدها بقربِ حضور الشمس؛ ويعرض عليها صور هلع الجناة القادم:
– «أيامهم يا أمّي تنحسر؛ والطوق يضيق على أعناقهم. الدوائر تدور فاختزني زغاريدَك لتطلقينها في حضور النور الساطع احتفاءً معهُ وبه»..
تتقاطر دموعها على خدِّه لحظة تطبع قبلاتها الحنون على جبهته:
– أشكُّ في ذلك، يا ولدي!.. تهمس.
– اعتبري كلامي رصيداً لسرورك الآتي.. علّقونا من أرجلنا كالخراف، سنعلِّقهم من آذانهم كالقِردة.
وغاب..
وطالت بغيابه الأيام.
بيدّ أنّه كان يبعث إليها: «أنا في حمّى الاشتغال، يا أمّي. سألقاكِ يوم الوفاء».
الأيام تحمل أخبار اقتراب الشمس؛ ومعها تحمل رائحةَ انحسارِ عطن الأوجار.. سمِعت أنَّ الرعب انتقل لصدور الضباع؛ والهلع يتفشّى راجزاً على قسماتِ وجوهِهم الغبارية. كثيرٌ منهم طفقوا يتسللون كفئرانٍ يرتدون أوشحةَ الجُبن وينسلون كخيطِ الظلام. أما القلَّة فيتظاهرون بعنفِ الزمن الذي يظنّونه ما زال بأيديهم، مُظهرينَ سيوفاً مثلومةً تقطرُ دماءً وردية ما زالت عالقة، غير أنّ سيقانهم تفضح خيبتَهم ورعبَهم بفعلِ الارتعاشٍ يوشك على تعثّرهم، أمّا شفاهُ المطعونين بخبثهم فتبثُّ كلماتِ الهزءِ مُشعَّةً باتجاه عيونهم المركّبة ما دفعتهم بإحدى نهارات قدوم الشمس إلى التواري فلم ير أحدٌ خطاهم المعفرة بالعار تلطخ ثرى الطرقات. ولم يتحسسّ أحد انفاسهم الفاغمة لأنَّ النور الزاحف من شتى الأصقاع، والأريج العذب الهاتف في كل الأنحاء أعلنَ قدوم صّناع الأمل أرتالاً، أفواجاً..
الحناجر في الدروب والطرقات تفجّرت موقِظة قلبَ الأم في فناء بيتها الذي لم تصله هكذا احتفاليةٌ أبداً ، فاندفعت صوب الزغاريد تزغرد، دون أن تسأل، فقد حدست تلك اللحظة ايفاءَ الوعدِ وترجمت صدقَ القول.
تداخلت مع الجموع المهللّة المنشدة بأصوات هادرة رخيمة.
زغردت بكل ما في حنجرتها من قوّة وخزين صوت؛ وانهالت تنثر أشعاراً لا تفقه كيف توالدت.. هكذا بلا وجل ولا استدراك؛ واستمرت تزغرد وتنثر.. تزغرد وتنثر حتى وهي تبصر تابوتاً ترفعُه الأيادي المشدودة باتّحادٍ يتجه صوبها.
Leave a Reply