في هذه البلاد الواسعة الشاسعة، اليونايتد ستيتس أوف أميركا، حيث تسرع السيارات والطيارات والكمبيوترات والتلفونات والأولاد والبنات والناس من كل الفئات، حيث كل إنسان يدور ويحور ويتحرك آليا في مجتمعات غارقة بالتقدم والحداثة، وأيضا في بلاهة وغباء وتشويه الحياة ومسخ وجهها الدافئ، في علاقة مشوهة بين الإنسان ونفسه، وبالموجودات كافة ومع الزمن الذي يعبِّرون عنه بكلمتين سريعتين هما: عصر السرعة.
تسمع هاتين الكلمتين، عصر السرعة، من الكبير، الصغير وحتى «المقمّط في السرير». وأحيانا أنظر إلى هؤلاء الناس، وأتساءل لِمَ هم مسرعون هكذا؟..
هذا يمشي على الطريق وكأنه يجري وراء الحرامي الذي سرق بيته، وذاك يركض في اتجاه آخر ويتمنى لو يستطيع أن يسير على قدميه ويديه، أو يتحول إلى دولاب يكرج أو برميل يتدحرج طلبا للمزيد من السرعة، وآخر يسوق سيارة تجري به عاصفةً قاصفةً وكأنها طيارة. والأغرب، عندما ترى أحدهم يتحدث في وقت واحد بواسطة «هاتفين ذكيين» من فصيلة «الآيفون»، ويستعجل في الحديثين، ويتشنج ويتمايل على الجانبين ويسير في الإتجاهين في آن.
يسألك أحدهم سؤالاً، فتتمهل في الإجابة احتراماً لعقله، فيتحرقص ويتعوقص متأففا قائلا: أنا مستعجل!!.
في البريد، وفي البنك وعند الطبيب أو في أي دائرة، الكل مستعجل وليس لديه وقت للإنتظار، حتى المسنين والمسنات إذا تواجدوا في دائرة رسمية، يتذمرون ويتمنون لو لديهم المكنسة المسحورة لركوبها والطيران بها.
سمة الإنسان الحديث هي السرعة، فهو يمشي مسرعا ويقود سيارته مسرعا، ويأكل مسرعا ويحب بسرعة ويترك حبيبه بسرعة. الشخص الواحد من هؤلاء يهبّ من نومه عند الصباح دون أن يشبع من النوم، لأن الوقت زركه.
بصوت متعب ومتقطع يدل على إرهاق ونعاس صاحبه، يقول لنفسه: يجب أن أكون في مقر عملي بعد دقائق.. تنتظرني أطنان من العمل..
يلبس ثيابه كيفما اتفق ويترك المنزل على عجل. فلا متسع من الوقت لتناول طعامه الصباحي -حتى المرفهون يكتفون بسندويش باردة وكوب قهوة- ويخرج من البيت مسرعاً وقلقاً.
يشغل السيارة في الحال وينطلق بها وهي باردة، فراحت تتنقوز وتسير غصباً عنها الى أقرب «درايف ثرو» للحصول على جرعة القهوة.
يتابع سيره على عجل دون أن يضيّع من وقته الثمين ثانية واحدة ليسترد فيها فكة دولاراته التي دفعها ثمن كوب القهوة. رغم أن الدولار هو العزيز الغالي على قلبه في هذه الدنيا، إلا أنه يؤمن بمقولة «الوقت مال» (تايم إز ماني).
بلغ عمله، نزل من السيارة مسرعاً، فعلِق طرف سترته بباب السيارة. انمزقت السترة. هرول في اتجاه مكتبه ناسيا المفاتيح داخل السيارة، لأنه إنسان «بزنس مان» يعيش في عصر السرعة. استجمع قواه وجلس الى مكتبه. بسرعة كبيرة، جال على آخر أخبار القتل والكذب والبورصة.
اشتد عليه الصداع من قلة النوم، وأحس بالهبوط من قلة الأكل، وتملكه الوهن من قلة الراحة، فارتمى على كنبة المكتب تاركاً كوب القهوة الذي لم يشرب منه سوى «شفّة» واحدة حرقت طرف لسانه من شدة سخونتها عند إشارة ضوئية. الساندويش البارد بقي ملفوفاً ومنبوذاً على الطاولة، ثم أسقط رأسه ونام.
فما جدوى السرعة إذن!
إنسان عصر السرعة لا ينام في وقت النوم، ولا يأكل في وقت الأكل ولا يعرف قيمة فنجان القهوة. يخسر وقته ودولاراته الغالية بالسرعة التي جمعها بها، يمزق سترته، يخرّب سيارته.. ولا طاقة له على العمل..
إنه عصر الندامة والإحباط..
Leave a Reply