«اصبرْ لكُلِّ مصيبةٍ وتجلَّدْ أمامَها تنجلي»
جاءنا العميدُ مدَجَّجاً بالسلاح، يحيطُهُ الحرسُ القمعي من كلِّ جانب، فبادرَنا بلهجةِ الناهر: «إسمعوا.. كلّ ستّة في خيمة، ومن يخالف الأوامر عليه أن يستعدَّ للعقابِ الذي أهونُهُ الجلد حيثُ تسمح بهِ قوانينُ مملكَتِنا».
وبما أنّنا قد خبرْنا التدريبَ على تفاصيلِ حياةِ العسكر سابقاً، قمنا بسرعة البرق وبروحِ خليّة النحل الجماعيّة بنصبِ الخِيَم، واستلام وتوضيب عدّة ومستلزمات حياة الخِيَم من «جلكانات الماء»، «القُصعة»، ولباس «التراكسوت». فغادرَ العميدُ يصحبُهُ حرّاسُهُ مزهُوّاً. كان المكانُ الذي حشِرنا فيه يطلقون عليه «مربّع» لكونِهِ يمتدّ لمسافة مائة متر لكلّ ضلع، تُحيطُهُ الأسلاكُ الشائكة وينتصبُ في أعلى إحدى زواياه مدفعٌ رشّاشٌ كبير يحيطُهُ هو الآخر سياجٌ ثانٍ ضيِّق تستخدَم باحتُهُ كسجنٍ إنفِراديّ.
في الفترة اللاحقة تجمّعْنا مرّةً أخرى حيثُ عادَ العميدُ آمِراً باختيار شخصٍ منّا لتنصيبِهِ بصفة «أمير الشبك» المقصود بهِ «المربّع»، ونوّهَ بأنْ تتوفّرَ في المرشّح صفات الشيخ أو الإقطاعي، ولم يفصِح بصفةِ المنافق. حيثُ استلَمَ أحدُ اللاجئين مهامّ ذلك المنصَب الذي أوهمَهُ بأنّهُ أصبحَ أميراً يمارس سلطاته على أرض الواقع، وقد دشّنَ عملَهُ بالإستهانة إلى الأقصى بمبدأ الأمانة الأخلاقيّة في توزيع الموادّ الغذائيّة، تحفُّ بهِ ثُلّةٌ من الشقاوات والتابِعين من أهالي منطقتِهِ.
وكعادةِ الصُدَف الجميلة التي يستتبِعُها حسنُ الحظ، كان يسكن الخيمةَ المجاوِرة لي الشاعر خضيّر النزيل، الشخصية الفذّة الذي يتوافر على ثقافةٍ معرِفيّة واسعة، وكذلك كان نزلاء الخيمة المقابِلة جمعٌ من الأدباء كالشاعريْن كريم الدريعي وناجي رحيم، والقاصّيْن رياض كاظم الخضيري ورياض سبتي. ممّا أسهمَ في امتصاص الوحشة التي يبثّها المكان عدا عن إغناء مداركِنا المعرِفيّة عبر تبادل حواراتنا اليوميّة.
وبعدَ مضِيِّ ستّة شهور من جفاف ووحشة الحياة داخل تلك الأقفاص، بدأتْ السلوكيات المستهجنة تطفو على السطح لتنتهي بمشاجراتِ جماعيّة تستخدَم فيها الأيدي والعِصي والسكاكين، حيثُ كان عددُ النزلاء اللاجئين يربو على الخمسمئة، وهو عددٌ ضخمٌ بحيثُ يضيقُ بهم ذلك المحيّم السجن.
وبما أنّي أميلُ في قضاء تلك الأوقات الثقيلة، إلى النهلِ من المنابع الثقافيّة العديدة، طلبنا إلى العميد أن يساعدَنا على تأسيس مكتبة متواضعة لهذا الغرض فاستجابَ الرجلُ مشكوراً حيث أبدى تعاونه الكامل معنا حتّى اكتظّت الرفوف بمختلف المعارف الإنسانيّة والأدبيّة والعلميّة.
ولأنّ طبعي لا ينسجم مع الثرثرة في الحديث أو الإستغراق في سماع الحكايات الساذجة ولا يجنح إلى إضاعة الوقت وإرباك التفكير في متاهاتها، فقد كنتُ أنسلُّ عند حلول الساعة التاسعة صباحاً مستأذِناً الحارس ليسمحَ لي بتمضيةِ الوقت بين أدراج ورفوف المكتبة، وقد كنتُ كثيراً ما أجاورها حتّى المساء، ما إن أنتهي من قراءةِ كتابٍ حتّى أنتقل لغيرِهِ. فهناك الموسوعات السياسيّة والأدبيّة والطبيعية والفلسفيّة والنفسيّة التي تتكوّن من سبعةٍ وعشرين جزءاً بالإضافة إلى الموسوعة الإجتماعيّة وكتاب المنجد في اللغة والأعلام.
التتمة في العدد القادم
Leave a Reply