ما هو برأيك مقياس التمدن؟؟ سألت المعلمة تلاميذها طالبة منهم الإجابة عن ذلك الموضوع. وعلى الطريقة الأميركية، قدمت لهم بعض رؤوس الأقلام مثلاً، عدد السيارات، عدد الأطباء، المستشفيات أو الجامعات أو حجم الإقتصاد ودخل الفرد أو عدد الفائزين بجوائز «نوبل» وأمثال عديدة أخرى طرحتها كمؤشرات على التمدن.
كنت أنا واحدة من هؤلاء الطلاب، القادمين حديثاً إلى أميركا وأحاول تعلم الإنكليزية وإكمال الصف الثاني عشر.
لاحقاً، سألت من حولي من الأهل والأصدقاء هذا السؤال، ما هو معيار التمدن الذي لمسته أول وصولك إلى أميركا؟؟ إجابات عديدة سمعتها لم تقنعني. فإذا كانت المشاريع الكبرى معياراً للتمدن، لأصبحت الدول العربية النفطية من أكثر الدول تقدماً وتمدناً، لكن المال، ببساطة، مقياسٌ باطلٌ، للأفراد والدول، خاصة عندما يصبح مثل أكياس الرز.
كذلك السيارات والطائرات والمستشفيات، بدت لي مقياساً فارغاً، خاصة وأنها تولّد الكثير من الموت، وأنا لا أحب أن أقيس المدنية بمعدل الوفيات رغم أنه قد يكون مقياساً مناسباً جداً لمنطقتنا في الشرق هذه الأيام.
قادتني الصدفة لحضور أحد الإحتفالات في فندق فخم وراق في وسط ديترويت بحضور الكثير من المغتربين الجدد. زوجة أحد الحضور غلبتها الحاجة لقضاء الحاجة لكنها لم تجرؤ على سؤال المضيفين عن مكان الحمام، فطلبت من زوجها أن يستفسر لها وبسرعة. وبالفعل تولى الرجل مسؤوليته بشجاعة، فسأل أحد الموجودين بطلاقة: «فين الجنتلمن بتاع الليديز».
قرأت المعلمة في الصف أوراق الإجابات المقدمة لها. وإختارت البعض منها لتلاوتها أمام طلاب الصف لما وجدت فيها من أسلوب جديد للإجابة الحرة غير المقيدة بما قالته هي.
كانت إجابتي ضمن الإجابات التي أعجبتها فقررت قراءتها بعد شيء من التعديل طبعاً. فقد وجدت أن أفضل وأدق مقياس للتمدن في أميركا هو وجود المراحيض العامة ودرجة نظافتها. فهي موجودةٌ في الحدائق والمكتبات وأي مكان خاص أو عام، وحتى في الشوارع، تستطيع التوقف أمام مطعم أو مقهى وتستعمل الحمام، دون وجود لافته تقول أن الحمام للزبائن فقط. حتى المراحيض العامة في الحدائق بدت لي أنظف وأكثر تنظيماً من بعض العقول العربية التي تفوح منها هذه الأيام روائح كريهة.
وما أوصلني لهذه القناعة -بأن تمدن الأمم يقاس بوفرة ونظافة المراحيض العامة- هي أهمية «بيوت الراحة». فالإنسان بإمكانه أن يصوم عن الأكل والشرب لعدة أيام ولكنه لن يستطيع البقاء حياً دون أن يفرّغ أحشاءه التي قد يتسبب إنسدادها بتسمم عام قد يكون فتاكاً. وبالطبع، لا يحلو للإنسان منا القيام بذلك إلا في خلوة صحية وهذا موضوع ليس فيه كسوف.
سؤال «فين الجنتلمن بتاع الليديز»، كان الجواب الضائع عن مقياس التمدن في بلد ما.. وهو ما تثبّتَ منه خلال رحلات السفر. ففي سيدني مثلاً، كانت تصدح موسيقى ناعمة في الحمام، وعلى بابه تستقبلك فتاة جميلة بابتسامة ومنديل جديد ناشف وهي تتمنى لي السلامة في رحلتك. وفي مطار ألمانيا، كانت الموسيقى لكن لا فتاة حسناء في الخارج. وفي بعض المناطق «الراقية» في لبنان، كلفني دخول الحمام بضعة دولارات. أما في بعض الدول العربية، تعلمت أن الصيام خير وسيلة لتفادي إستعمال المراحيض العامة وروائحها النتنة.
Leave a Reply