منذ اسبوع، وفيما كنت استمع الى أخبار «خربة غزالة» في محافظة درعا، قررت ان اكتب عن نشوء الحزب السوري القومي الإجتماعي فيها، وعن عائلة تميزت بالنضال القومي، فبحثت عن تقرير كان اعده الرفيق خليل حوراني بعنوان «هكذا اهتديت الى الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وإذ وجدته وضعته جانباً كي أبدأ الكتابة عنه، وعن كيفية تأسيس الحزب في بلدته خربة غزالة، الى أن باتت هناك ثلاث مديريات تضم رفقاء من مختلف عائلاتها.
لم أكن أدري -وأنا أفعل ذلك- إني، بعد ثلاثة أيام، سأتلقى خبر وفاة الرفيق المناضل خليل حوراني، فقد اتصلت بالأمين الشاعر محمد بيضون لأسأله متى نلتقي للبحث في موضوع نشوء الحزب في مدينة بنت جبيل، وكعادتي اسأله دائما عن «أبو وحيد» الذي يتفقده الأمين محمد باستمرار، فيما اكتفي بالاتصال هاتفياً من فترة الى فترة بمنزله فترد علي ابنته، وجوابها واحد، لا جديد. إذ أن الرفيق خليل بات في حالة تقرب من الغيبوبة.
هكذا اهتديت
«في تلك الفترة من ثلاثينات القرن الماضي، لم أكن أعرف شيئاً عن أي حزب أو جمعية. كنت تركت المدرسة والتحقت باعمال تجارية مع والدي، وكان عمري لا يتجاوز العشرين.
بالقرب من بلدتنا محطة للقطار، كانت مركزاً لتجارة الحبوب، فكان أكثر التجار يأتون من دمشق لشراء المحاصيل وكان الفلاحون يسددون ما عليهم ويستدينوا ثمن البذار للسنة المقبلة.
على رأس هؤلاء التجار الذين يتعاطون الربا والفوائد الفاحشة، تاجر يدعونه «الآغا» معروف بالغطرسة والظلم وسيطرته على عناصر الشرطة، وقد أقام قرب البيت التابع لمصلحة سكة الحديد الذي كان يشغله، صهريج ماء خاص به، يجلب إليه من مياه «المسمية» قرب دمشق، من أجل حاجات فرسه والخرفان في حديقة منزله.
أما نحن في القرية التي تبعد عن مكان سكن الآغا 500 متراً فقط، فكنا نشرب من المياه التي تتجمع في البرك أيام الشتاء بحيث تتكاثر الامراض وتصيب على الاخص الاطفال، ولأن القرية كانت تفتقر الى طبيب، فقد كان يحضر إليها اسبوعياً طبيب من دمشق فيعالج المرضى ويتقاضى ليرة سورية أو ما يعادلها من بيض أو حبوب.
صادف أن كان أخي الصغير منصور، وله من العمر سبع سنوات، يلعب مع عدد من الأولاد قرب الصهريج فتسببوا باندلاق الماء منه.
عندما وصل الخبر الى الآغا راح يشتم ويرغد كثور هائج، ولسوء حظي -ربما لحسنه– كنت ماراً أمام منزل الآغا والأزلام حوله، فأشار الي احدهم قائلاً بأني أخ أحد الاولاد الصغار الذين كانوا يلعبون قرب الصهريج، فما كان من الآغا إلا ان وجه نحوي شتائمه، وإذ طال والدتي بسبابه، لم اتمكن من السكوت، مما جعله يجن مهدداً اياي بالشرطة والفلقة. وفعلاً حضر أفراد من الشرطة واقتادوني الى المخفر».
ويتابع الرفيق خليل انه فيما هو في المخفر «مر أمام نافذة النَظَارة رجلان يرتديان الجاكيت والكرافات -وكنا نسميهم الأفندية- فاقترب مني أحدهما وسألني ما هي قصة توقيفي في المخفر، فقصصت له ما حصل، وما هو دور الآغا الظالم تجاه ابناء البلدة».
بعد قليل اخرجه احد الشرطة من النظارة وادخله الى غرفة كان فيها الآغا الذي بادره بالقول: علمت أن والدك ادمي، روح سامحناك…
« وخرجت من النظارة فاقترب مني احد الافندية وسألني: يا خليل وين بيتكم، بدنا نتغدى عندكم..
أخبرت والدي، فبدأ بتحضير الغداء اللائق».
عرف الرفيق خليل أن «الأفندية» هما الأمين الياس جرجي قنيزح (1) والأمين جورج بلدي (2).
«قبل مغادرتهما سألني الأمين الياس إذا كنت اعرف مدينة درعا. اجبته: نعم فقد درست فيها..
أشار الي ان نلتقي في القهوة قرب البلدية، للرفيق ميشال الديك(3).
«هناك، على طاولة بعيدة عن زبائن المقهى بدأ الأمين الياس جرجي بأسلوبه الممتع يشرح لي عن الحزب، وما تعني سورية للسوريين.
«سلمني كتيب شرح المبادىء، ودستور الحزب، ورغب الي أن أدرس العقيدة على مهل، وبعد عشرة أيام نلتقي مرة أخرى».
«والتقيت به اكثر من مرة في مقهى الرفيق ميشال الديك. كنت متجاوباً بكل عقلي ووجداني. وفي 20 نيسان 1946 وفي منزل الرفيق ميشال الديك اديت القسم بحضوره وحضور الأمين الياس. ومنذ ذلك التاريخ اصبحت سوريّاً قومياً اجتماعياً، وأصبحت مبادىء الحزب شعاراً لي ولبيتي، وبدأت اشرح في قريتي التعاليم السورية القومية الاجتماعية، فتشكلت بعد فترة مفوضية من شباب كل العائلات، وبعد فترة أيضا أصبحت مديرية وكان الرفيق خضر نقاوة مسؤولاً عنها، وسميناها مديرية الواجب، فيما توليت مسؤولية ناظر اذاعة منفذية درعا التي كان منفذها الرفيق ميشال الديك، ومعه على ما أذكر الرفاق اسماعيل الشرع، عبد الرحمن المسالمة، رجا المسالمة، ونايف الرفاعي.
عمل الرفيق خليل على نشر العقيدة السورية القومية الاجتماعية في بلدته خربة غزالة، وفي محيطها الى أن تأسست ثلاث مديريات في بلدته.. وكان من المنتمين اشقاؤه الرفقاء محمد، يوسف ومنصور.
الرفيق محمد شارك في الثورة القومية الاجتماعية الاولى، واعتقل اثر معركة مشغرة. استشهد في الاحداث اللبنانية عام 1976.
الرفيق يوسف تعرّض للاعتقال في سجن المزة في دمشق لمدة 4 سنوات، شارك في الثورة الانقلابية وأُسر، وخرج مع العفو في شباط 1969. والرفيق منصور استشهد على ايدي «المقاومة الشعبية» عام 1958 امام انظار والدته التي كانت تنتظر خارج السجن خروج ابنها منه.
كان الرفيق خليل اذ يتردد الى لبنان، يزور «بنت جبيل» حيث يوجد له اقارب لوالدته، فتعرف على زوجته، وهذا ما جعله يتولى مسؤوليات حزبية في بنت جبيل بتكليف من عميد الداخلية انذاك الأمين علاء الدين حريب(4). فتأسست مديرية فيها تبعت منفذية صور، ونشطت المديرية في بلدات مجاورة، بفضل الزيارات التي كان يقوم بها الرفقاء حسن مرتضى، يوسف مروة، حسن قنديل، ابرهيم حلاوي وعادل ضاهر، الى أن تأسست مديرية في عيتا الشعب وأخرى في عيناتا، وانتمى رفقاء في كل من رميش، ميس الجبل وعين إبل.
عنه يقول الرفيق حسن مرتضى، وقد عرف الرفيق خليل ناشطاً في مدينة بنت جبيل، ومنطقتها: «عندما اتصل بي الرفيق خليل حوراني وراح يذكرني ببعض الوقائع والتفاصيل عاد شريط الذاكرة يربط ما انقطع منها وعاد الرفيق خليل يأخذ صورته المشرقة في نشاطاته الحزبية في تلك الفترة الممتدة ما بين 50-51 الى نهاية ١٩53، والتي لم تقتصر على مسؤوليته في بنت جبيل بل امتدت الى محيطها كعيناتا وعيتا الشعب
بل كان يرافقني الى كفرا وغيرها في العمل الاذاعي والمساعدة الادارية وانني ما زلت اذكر له مواقف مجابهة مع الخصوم وتصديه ذات مرة مع رفيق من مديريته لتفريق مظاهرة مناوئة تركت اثراً جيداً في المنطقة ».
ويشهد الامين عبدالله قبرصي بالكلمة التالية: «أعرف الرفيق خليل حوراني منذ أكثر من ثلاثين سنة وأعرف أنه وهب حياته مع افراد عائلته للحزب، لا يألو جهداً في العمل النظامي أو التبشيري. إني أشهد أن صموده ومناقبه القومية تؤهله لنيل رتبة الأمانة».
وافته المنية يوم الجمعة 18 الفائت، وشيّع الى مثواه الاخير في بنت جبيل وسط حضور لافت من رفقاء واصدقاء واهالي المدينة ومحيطها.
Leave a Reply