لم يكن أحد يجرؤ على الكلام عن عدم إجراء الانتخابات النيابية في لبنان خارج موعدها الدستوري، أو يعلن عن موقفه بالتمديد لمجلس النواب، وكان يُحكى همساً عن تأجيل تقني لفترة محددة إذا تم التوافق على قانون انتخاب جديد، استهلك النواب البحث به في اللجان النيابية المشتركة، ولجنة التواصل النيابية التي تألفت من الكتل النيابية الأساسية بقرار من الرئيس نبيه بري، لدراسة مشاريع واقتراح قوانين مطروحة ومن أبرزها مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» الذي ينص على أن ينتخب كل مذهب ممثليه، والذي حظي بتأييد لقاء بكركي الماروني المكوّن من «التيار الوطني الحر» و«تيار المردة» وحزبي «الكتائب» و«القوات اللبنانية» ومن الثنائي الشيعي حركة «أمل» و«حزب الله»، ولاقى اعتراضاً من «تيار المستقبل» والحزب «التقدمي الاشتراكي» ومسيحيين مستقلين اضافة إلى هيئات من المجتمع المدني وأحزاب علمانية.
ناشطون من المجتمع المدني يطلقون حمامات السلام في شوارع طرابلس. |
لكن «المشروع الارثوذكسي» الذي قدمه النائبان الآن عون ونعمة الله أبي نصر باسم «تكتل الاصلاح والتغيير»، لم يصل إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، بسبب عدم توفر «الغطاء «الميثاقي» كما قال الرئيس نبيه بري الذي اشترط لإقرار أي قانون انتخاب، الحصول على موافقة مكونات المجتمع اللبناني الأساسية السياسية والطائفية، واقترح بديلاً عنه ما يسمى بـ«القانون المختلط» الذي يجمع بين النظامين الأكثري والنسبي، وهو تسوية بين من هو رافض لأي منهما، وحصل خلاف على توزيع النسب بينهما وعلى الدوائر الانتخابية، إلا أن «القوات اللبنانية» لكي تخرج من حرج «الارثوذكسي» أقنعت حليفها «تيار المستقبل» الذي حاز على تأييد «التقدمي الاشتراكي»، أن يوافقا على توزيع يقدم 68 نائباً على الأكثري و60 نائباً على النسبي، وجرى الاعلان عنه في مؤتمر صحافي صبيحة انعقاد الهيئة العامة لمجلس النواب يوم 15 ايار وقد شكل هذا «الاتفاق الثلاتي» مفاجأة «للتيار الوطني الحر» ولبكركي بالإنقلاب الذي قامت به «القوات» على «المشروع الارثوذكسي»، الذي كان طارحوه يعتقدون أنه فرصة لن تتكرر لحصول المسيحيين على المناصفة الحقيقية داخل مجلس النواب والتي ضمنتها المادة 24 من الدستور، وإن «القانون المختلط» وإذ يحّسن صحة التمثيل المسيحي بعددمحدود من المقاعد، لكنه يبقي المسيحيين تحت رحمة «الصوت المسلم»، حيث شكل اعتراض «تكتل الاصلاح والتغيير» على هذا الاقتراح مع حزب «الكتائب» وتذمر البطريركية المارونية التي وإن نجحت في تعليق العمل «بالارثوذكسي» وعدم الترشح على قانون الستين إفساحاً في المجال للتوافق اللبناني على قانون لا يظلم أحداً. وعندما لم يحصل ذلك، وانتهى عمل لجنة التواصل، كان لا بدّ للكتل النيابية أن تترشح على أساس قانون الستين، لا سيما من كان رافضاً له، ولكنه نافذ، وكي لا يفوز بالتزكية كل من تقدم على أساسه، ومنهم مرشحون مستقلون ومغمورون اعتبروا أنفسهم فائزين بالتزكية، لكن المجلس الدستوري رد الطعن المقدم من نواب «جبهة النضال الوطني»، بدستورية القانون الذي أقره مجلس النواب بتعليق المهل من أجل افساح المجال أمام توافق على قانون انتخاب قبل هذا التاريخ، لكن النقاش الذي كان يدور بين النواب أعضاء الكتل، حول عدد المقاعد التي يحصل عليها هذا الفريق أو ذاك، ولمن تكون الأكثرية النيابية التي يتوقف عليها تشكيل الحكومة، كما في التأثير بانتخابات رئاسة الجمهورية واقرار قوانين، هو الذي عطلّ ومنع الوصول إلى قانون جديد، أعلن الرئيس بري أنه مضمون في المادة 22 من الدستور التي تنص على انتخاب مجلس نواب وطني (خارج القيد الطائفي)، ويتشكل مجلس شيوخ من ممثلي الطوائف يبحث في المسائل الوطنية والمصيرية وهو من الاصلاحات التي نص عليها اتفاق الطائف.
ومع انسداد أفق التوصل إلى قانون جديد، وترشح كل القوى السياسية والحزبية وشخصيات مستقلة للانتخابات المحدد موعد اجرائها في 16 حزيران (يونيو) كان هناك من يطبخ للتمديد لمجلس النواب، تحت ذريعة وأسباب أمنية داخلية، اضافة إلى تفجر الوضع في سوريا وامتداده إلى لبنان، وانخراط أطراف حزبية كـ«حزب الله» وأخرى سلفية ذهبت من الشمال والبقاع والجنوب ومخيمات فلسطنية للقتال، فريق مع النظام وآخر ضده مع المعارضة المسلحة والتكفيرية وهو ما انعكس اضافة إلى الانقسامات السياسية اشتباكات واشكالات وتوترات طالت أكثر من منطقة، كان أبرزها في طرابلس بين منطقة باب التبانة الخاضعة للقوى الاسلامية الاصولية والمحتضنة للمعارضة السورية التي انخرطت في الصراع العسكري، ضد جبل محسن المؤيد للنظام السوري وأكثرية سكانه من الطائفة العلوية، حتى اتخذ النزاع الذي سبق اندلاع الأزمة السورية بسنوات طابعه المذهبي، واستعيدت مرحلة الثمانينات التي شهدت خلالها طرابلس «السيناريو» نفسه من القتال، إثر حوادث حماه بين الجيش السوري و «الاخوان المسلمين» الذين فر بعضهم إلى عاصمة الشمال وحولوها مع حركات اسلامية أبرزها «التوحيد الاسلامي» بقيادة الشيخ سعيد شعبان إلى امارات اسلامية على غرار ما يجري اليوم وما ينتظر طرابلس التي باتت بالكثير من أحيائها بقبضة «أمراء محاور» هم امراء «امارات اسلامية» تشكلت أيضاً في الثمانينات وتم القضاء عليها بدخول الجيش السوري مع أحزاب لبنانية حليفة له إلى المدينة.
هذه الأجواء الأمنية المضطربة في طرابلس خصوصاً والشمال عموماً، وتمددها إلى الهرمل التي تتعرض للقصف، بعد قيام «حزب الله» بالدفاع عن القرى والبلدات اللبنانية التي تشكل شريطاً داخل الأراضي السورية عند الحدود التي لم يتم ترسيمها بوضوح في اتفاقية سايكس-بيكو التي جزأت المشرق العربي، شجعت دعاة التمديد من الرئيس بري إلى النائب جنبلاط و«حزب الله» ضمناً إلى المجاهرة بما كان محظوراً قوله علناً، إنه لا بدّ من التمديد لمجلس النواب، وبدأ النقاش حول المدة، في الوقت الذي كان الموفدون الدوليون إلى لبنان، يشجعون المسؤولين فيه، والقيادات السياسية على ضرورة احترام الاستحقاق الدستوري، واجراء الانتخابات في موعدها، لأن عدم حصولها، يعطي اشارات سلبية عن عدم الاستقرار في لبنان، وهو غير مطلوب دولياً، لا بل أن القرار الدولي هو حماية السلم الأهلي، ودعم الجيش اللبناني في الحفاظ على الأمن، وتداول السلطة في لبنان، وتطبيق القوانين وبنود الدستور، وذكّر هؤلاء الموفدون المسؤولين اللبنانيين، أن مجلس الأمن الدولي أصدر قراراً حمل الرقم 1559 لمنع تعديل الدستور والتمديد للرئيس إميل لحود في أيلول 2004، وإن التمديد لمجلس النواب وسلطات أخرى سيشكل انتكاسة للمجتمع الدولي، الذي سينظر إلى لبنان كدولة فاشلة.
ولم يكترث بعض المسؤولين والقيادات إلى التحذيرات الدولية، وعمل الرئيس بري على التمديد لمجلس النواب، واتفق مع وزير الدولة لشؤون مجلس النواب نقولا فتوش أن يقدم اقتراح قانون بالتمديد سنتين، مبرراً الأسباب الموجبة بوجود حرب في لبنان، مرتكزاً إلى التمديد الذي كان يحصل لمجلس النواب المنتخب عام 1972، وبدأ التمديد له منذ العام 1976 تاريخ انتهاء ولايته بسبب الحرب الأهلية التي كانت قائمة وتوقفت في العام 1990، حيث ومنذ ذلك التاريخ والانتخابات تحصل في موعدها، ولم تقنع الأسباب الأمنية لا رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ولا العماد ميشال عون، فأعلن كل منهما أنه سيطعن أمام المجلس الدستوري بقانون التمديد الذي نال موافقة أغلب الكتل النيابية، باستثناء كتلة «التيار الوطني الحر» التي امتنعت عن المشاركة في الجلسة.
فالأسباب الأمنية الموجبة للتمديد لمدة سنة وثلاثة أشهر لم تقنع المجتمع المدني اللبناني، الذي اعتبر أن الوكيل لا يمدد لنفسه، وإن الشعب هو من أعطى الوكالة، وهو من يستعيدها، وهذا اغتصاب لحقوقه الدستورية وطعن بارادته وتعطيل للديمقراطية التي هي المساءلة والمحاسبة، والمواطن اللبناني الذي قيل عنه أنه يصوّت «زي ما هيي» وضع أمام مسؤولياته في زمن «الربيع العربي» الذي خرجت الشعوب للتغيير، الذي صادرته «القوى الاسلامية» لاسيما الأصولية منها، وحولت المجتمعات العربية إلى «ظلاميات» بدلاً من أن تكون واحات للحريات والكرامة وتداول السلطة.
فالتمديد لمجلس النواب قد ينسحب على سلطات أخرى كرئاسة الجمهورية وهو تمديد للطبقة السياسية، واستتباع للبنانيين لزعماء طوائف واقطاعيات سياسية ومالية، وتأبيد لنظام طائفي، كان ممكن الخروج منه بتطبيق اتفاق الطائف ومن بنوده قانون انتخاب خارج القيد الطائفي.
Leave a Reply