يشعر العرب الأميركيون دائما بالفخر والإعتزاز كلما تناول الحديث مستشفى ومركز أبحاث «سانت جود» المتخصص بمعالجة الامراض السرطانية عند الأطفال، وهذا يعود الى ان هذه المؤسسة العالمية ذائعة الصيت أسسها وأطلق مسيرتها وحافظ عليها وطورها عرب أميركيون، كانوا على الدوام فخورين بتراثهم وحضارتهم، ومصرين على رد الجميل للبلد والمجتمع الذي احتضنهم وقدم لهم الكثير من الفرص والنجاحات.
في طليعة هؤلاء، النجم التلفزيوني من اصول لبنانية داني طوماس، واسمه الأصلي عاموس مزايد يعقوب كيروز والذي كان المؤسس الأول لمركز «سانت جود» الطبي الذي أصبح من أكبر وأهم المستشفيات ومراكز الأبحاث السرطانية في العالم. ويقع مقر مستشفى «سانت جود» الرئيسي في مدينة ممفيس في ولاية تينيسي، حيث اتخذ تلك المدينة مقراً لإنطلاقته في 1962 وهو اول معهد وطني متخصص بالأمراض السرطانية عند الأطفال وثالث أكبر مؤسسة خيرية ذات صلة بالرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأميركية.
وبداية تأسيس هذه المؤسسة العريقة يؤرخ لإنجازات الجالية العربية واسهامها في رد الجميل الى مجتمعها الأميركي، ولأن هناك أجيال جديدة من الشباب العربي الأميركي لا يعرفون تاريخ هذه المؤسسة، فكان من الضروري ان نسلط الضوء على نشأتها والرجال الذين بنوها كي يتعرفوا عليهم وعلى تراثهم وما انجزه اسلافهم في هذا البلد وفي مقدمة ذلك الانجاز الذي كان وراءه مجموعة من العرب الأميركيين بقيادة داني طوماس، إبان فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لأنه انجاز يدعو الى الاعتزاز وينضم الى رأس قائمة إنجازات الجالية العربية التي تنمو بإضطراد.
وفي هذا الإطار، تحدث رجل الأعمال العربي الأميركي جورج سيمون فقال «إننا جزء من مؤسسة تنجز ما تعد به ولا يمكن لأي أحد ان يجادل في تقديم الرعاية للاطفال». ويشغل جورج سيمون (لبناني الأصل) عضوية مجلس أمناء مستشفى «سانت جود» منذ أكثر من ٢٠ عاماً ، كما أنه مؤسس والرئيس السابق لشركة «يو أس إكويبمنت» العريقة والناجحة.
أما طوماس فكان يعمل في الكوميديا في النوادي الليلية، بعدها تسلق سلم الشهرة ليصبح ممثلاً مشهوراً في التلفزيون والسينما قبل أن يتحول الى إنتاج الأفلام. وقد تواصلت مسيرة طوماس الناجحة على مدى خمسة عقود، وعرف بدوره في مسلسلات كوميدية (سيتكوم) مثل «مايك روم فور دادي» الذي بث على مدى عقد كامل من على الشاشة الفضية عبر شبكتي «أي بي سي» و«سي بي أس» التلفزيونيتين. وهو والد مارلو طوماس الممثلة الأميركية الذائعة الصيت والمنتجة التلفزيونية والسنيمائية والناشطة الاجتماعية التي بدأت أنطلاقتها في السلسلة التلفزيونية الشهيرة «ذات غيرل»، وهو أيضاً والد الممثل التلفزيوني تيري طوماس.
قبل تسلقه الى النجومية كان طوماس ابن مهاجر ماروني لبناني، يعمل في محل للبقالة يملكه مهاجر سوري في مدينة توليدو بولاية أوهايو، لكنه كان طموحاً شديد التطلع الى الفن ويعشق النجومية، غير أن تحديات الحياة وقفت عقبة في طريقه فلم يكن لديه المال، ولا كان يعرف من أين ينطلق.
كان طوماس من سكان مدينة ديرفيلد في ولاية ميشيغن وتقع على بعد ٦٧ ميلاً جنوب مدينة ديترويت في محافظة ليناوي، لكن قصته التاريخية مع «سانت جود» تعود الى نشأته وبدايات عمله في محل السمانة في أوهايو وقبل نجوميته بسنوات عدة، حيث دخل طوماس في يوم من الايام الى كنيسة «سانت ماري» المارونية في ديترويت لتأدية مناسك دينية إعتيادية حيث وضع كل الأموال التي يملكها ومجموعها سبعة دولارات فقط لا غير في صندوق المساعدات للكنيسة وتوجه بالصلاة مناشداً القديس «سانت جود» لمساعدته للعثور على طريق النجومية وتحقيق أحلامه الكبيرة، ناذراً بأنه سيبني له تمثالاً فخماً في أحد أديرة أميركا يعبر به عن شكره وامتنانه.
وبعد بضعة أيام من ذلك النِذر حصل طوماس على وظيفته الأولى في مجال الفن وتقاضى عنها أجراً قدره 70 دولاراً فعاد الى كنيسة «سانت ماري» ليتبرع بكامل المبلغ وكرر دعاءه لـ«سانت جود»، وبعد فترة وجيزة جداً، يقول سيمون، حصل طوماس على وظيفة في مجال الفن في مدينة شيكاغو حيث كانت بداية إنطلاقته الى النجومية، اما الباقي «فهو تاريخ»، يقول سيمون.
لم ينس طوماس أبدا وعده لـ«سانت جود»، وبعد حوالي خمس سنوات من النجاحات المتتالية، توجه الى كاردينال كاثوليكي في شيكاغو كان قد تعرف اليه منذ نشأته وكان حينها مونسنيور وبعدها مطران من مدينة ممفيس في ولاية تينيسي، وقال له إنه في صدد الإيفاء بنذرٍ عليه لـ«سانت جود» ويريد بناء تمثال للقديس في كاتدرائية شيكاغو الكاثوليكية، فأشار عليه الكاردينال بأن الكنيسة ليست بحاجة «الى تماثيل.. فعندنا تماثيل في كل مكان، فلنفعل شيئا أكثر فائدة للناس مثل بناء عيادة لمساعدة الأطفال المرضى في أمراض مستعصية».
وأشار الكاردينال حينها الى مدينة ممفيس الفقيرة التي هي بحاجة ماسة إلى مركز طبي من هذا النوع. وفعلا إستجاب طوماس وقام بزيارة ميدانية الى ممفيس، واجتمع مع قادة المجتمع المحلي في المدينة، وبعد ذلك بدأ بناء مركز أبحاث لطب الأطفال الذي تحول وتطور الى «مستشفى ومركز إبحاث سانت جود لمعالجة الأمراض السرطانية عند الأطفال».
وقبل بداية المشروع بحث طوماس عن أشخاص من جاليته العربية من الذين يمكن ان يساهموا في انجاز هذا المشروع الكبير فأسس مع مجموعة من العرب الأميركيين «الجمعية الأميركية اللبنانية السورية الخيرية» وذلك في سنة 1957 وشكل مجلس أمناء من أعضائها وكان والد جورج سيمون أحد اعضائها والمؤسسين.
وفي هذا الإطار يقول سيمون بأنه يحمل اليوم إرث عائلته في رد الجميل للمجتمع من خلال الإستمرار في مساهمته على خطى والده في دعم مسيرة مؤسسة «سانت جود»، وهو الذي ترأس مجلس أمناء «الجمعية الأميركية اللبنانية السورية الخيرية» لمدة طويلة ولا يزال عضواً في مجلسها حتى اليوم. وتشرف الجمعية على عمليات جمع التبرعات لمستشفى «سانت جود».
ويحتاج «مستشفى ومركز أبحاث سانت جود» الى أكثر من 1.5 مليون دولار يومياً كتكاليف تشغيل، يغطي شركات التأمين للمرضى حوالي 180 الف دولار منها، فيما يتم تمويل النسبة الباقية من المصاريف اليومية (1.34 مليون دولار) من خلال المساهمات الخيرية التي تجمعها «الجمعية الأميركية اللبنانية السورية الخيرية» إضافة الى أكثر من 500 مليون دولار عبر أنشطة متنوعة لجمع التبرعات. ويقدر عدد الأنشطة الخيرية التي تقوم بها الجمعية سنوياً بحوالي ٣٠ ألف فعالية في جميع أنحاء أميركا. يذكر بأن سبعين بالمئة من ميزانية المستشفى تأتي من التبرعات، و30 بالمئة على شكل منح وهبات.
كان أحد أهم أهداف طوماس من إنشاء الجمعية هو تعزيز وتشجيع الثقافة العربية بين الناس في مجتمعه. اذ يقول: «نريد أن نؤسس للناس من ثقافتهم وتراثهم ونمنحهم وسيلة لرد الجميل لهذا البلد العظيم».
وكان الراحل طوماس من أشد المؤمنين بأن الولايات المتحدة قدمت للمهاجرين من الشرق الأوسط فرصاً ذهبية لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم مشيراً الى حقبة شبابه بأنها «الوقت الذي قدمنا ونجحنا فيه كجماعة أو كأفراد، وكان علينا أن نجد وسيلة لرد الجميل الى هذا البلد العظيم»، حسب سيمون.
ويشترط القانون الداخلي لـ«الجمعية الأميركية اللبنانية السورية الخيرية» على ان يكون 70 بالمئة من أعضاء مجلس أمنائها من اصول عربية أميركية، و30 في المئة يمكن أن يكونوا من خلفيات إثنية مختلفة، تشرف على إدارة مركز «سانت جود» في حين تؤكد الجمعية على سعيها للتنوع الحضاري مع الإحتفاظ بتراثها العربي.
ويضيف سيمون بأن هدف طوماس الأساسي من بناء المستشفى هو «أن لا يموت أي طفل قبل فجر الحياة». ظلت مهمة المستشفى وأهدافها على حالها منذ نشأتها، وهي ان يتمتع بالرعاية الصحية كل الأطفال المحتاجين دون اي تكلفة بغض النظر عن العرق أو الدين أو القدرة على تسديد فواتير الطبابة مهما بلغت.
وتبدأ كل اجتماعات الجمعية بـ «صلاة أمنائها» حيث يتلى ويكرر الوعد الذي قطعه على نفسه داني طوماس لـ«سانت جود» بأنّ ابواب المستشفى ومراكز أبحاثها ستظل دوماً مفتوحة للجميع ولن يرفض طلباً لأي طفل يعاني من مرض عضال أو يتألم من تبعاته. ويقول سيمون «تعتبر الصلاة أحد أعمدة مستشفى القديس جود التي تساعد جميع الأطفال، ويعتمد المجلس على عون الله دائماً وفي كل الأحوال ويدعو الأعضاء في صلاتهم ويقولون بأن بواسطة الحب نأتي امامك ايها القديس مسيحيين ويهود، ومسلمين متحدين في حبنا».
ولمستشفى «سانت جود» مراكز صديقة وعيادات متحالفة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، بما في ذلك مركز طبي في لبنان أسسته الجمعية نزولاً عند تطلعات الراحل طوماس وغيره من المؤسسين كتعبير عن تمسكهم بجذورهم وتراثهم. وقد تأسس مركز «سانت جود» لسرطان الاطفال في العاصمة اللبنانية بيروت في ١٢ نيسان (أبريل) 2002، ويعتبر إحدى الفروع التابعة لـ«سانت جود»، ويعمل بالتعاون مع المستشفى التابع للجامعة الأميركية في بيروت.
ويقع المركز في حرم مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، ويتكون من غرف للمرضى المقيمين ومرافق لعيادات خارجية. وتبلغ مساحة العيادات الخارجية عشرة الاف قدم مربع من ضمنها غرف لفحص المرضى وغرف للعلاج والتعافي، وصيدلية، ومختبر للتحاليل، وقاعة فيديو، ومنطقة للألعاب مزودة بأجهزة كمبيوتر. أما العيادات المخصصة للمرضى المقيمين والتي تبلع مساحتها ثمانية آلاف قدم مربع وتقع في الطابق العاشر من مبنى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وتتكون العيادات من ١٢ غرفة للعناية بالمرضى ومنطقة للألعاب والكمبيوتر ومكاتب للاطباء. ويعتبر مرض سرطان الدم (اللوكيميا) من الامراض الأكثر انتشاراً في لبنان، حيث يشخص أربعة من بين كل مائة الف طفل لبناني سنوياً بإصابة في مرض السرطان ٥٥ بالمئة منهم مصابون بـ«اللوكيميا».
كما يرتبط مستشفى «سانت جود» بشراكة مع «مركز الملك الحسين لمرضى السرطان» في عمان بالأردن، حيث يعالج أكثر من ٣٥٠٠ مريض سنوياً من الأردن ومن دول عربية أخرى.
ويتقاسم مركز الأبحاث في «سانت جود» الاكتشافات والعلاجات السرطانية بدون أي قيود أو أجور مع بقية المراكز الطبية في جميع أنحاء العالم، كما ساعدت المراكز التابعة لمستشفى «سانت جود» في تدريب الكثير من الاطباء من عشرات البلدان من انحاء العالم بينهم عدد من الأطباء والممرضين من البلاد العربية، وتعتبر مراكز «سانت جود» رائدة في مجال التدريب وهي تستقبل الاطباء والممرضين في مستشفى «سانت جود» وتعلمهم كيفية رعاية المرضى.
واللافت أنه عندما بدأ المستشفى عمله كان ٤ بالمئة فقط من المرضى يتعافون من مرض السرطان ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي، «أما الآن فإن نسبة الشفاء بمركزنا تبلغ 95 بالمئة، لقد قمنا بإنجاز فارق في حياة المرضى.. إنه إنجاز عظيم» يقول سيمون. وقد واصل المستشفى التزامه بتقاسم نتائج بحوثه مع بقية مراكز العالم كلما حقق تقدماً في بحوث أمراض الأطفال.
يوفر مستشفى «سانت جود» ومراكزه الصحية الخدمات للجميع دون اي تمييز بسبب العرق او اللون او الخلفية الثقافية أوالدينية، لكنه يشترط فقط في تقديم خدمات العلاج للمرضى الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة ويتم تشخيص أمراضهم ضمن نطاق بحوث المستشفى. ويختص المركز بثلاثة امراض كبرى أورام المخ، واضطرابات الدم، ثم الأورام الصلبة.
ومن خلال تطوعه الميداني في مستشفى «سانت جود» شاهد جورج سيمون كيف تم إنقاذ حياة الكثير من الاطفال ومساعدة أهاليهم على تجاوز الاوقات العصيبة نتيجة الحالات المرضية الصعبة لأطفالهم. ويتذكر سيمون حادثة التصقت بذاكرته وهي عندما سمع امراة تبكي في الخارج وهي تتحدث عبر الهاتف مع ذويها عن حالة ابنتها المريضة في المستشفى، ويتذكر ما قالته تلك المرأة وهي تجهش بالبكاء «لقد شُفِيَت»، يصف سيمون نبرة صوت هذه المرأة وأحاسيسها بالفرج والفرح واصفاً ذلك بالشعور الذي لن ينساه أبداً. «كل الآباء يعرفون أنهم سيفعلون أي شيء من اجل أطفالهم» يضيف سيمون، «عندما تسمع أحدهم يتحدث عن إمكانية شفاء طفله بعد كل ما عاناه من مشاعر الخوف والقلق والألم، حينها تشعر بأهمية هذا العمل الإنساني، وكم هو مهم ان نكون هنا للمساعدة».
Leave a Reply