كانت المناطق السوريّة الموالية لسلطة الرئيس بشار الأسد هادئة ساكنة مساء الأربعاء الماضي في 5 حزيران (يونيو) الجاري، كما في أي مساء آخر منذ سنتين وثلاثة أشهر، عمر هي الحرب العنيفة التي تشهدها البلاد. لكن في المقابل، كانت الضاحية الجنوبيّة لبيروت، المعقل الأوّل لحزب الله الشيعي اللبناني، على موعد مع حركة غير عاديّة: مواكب سيّارة وآلاف الشبان المبتهجين بإطلاق النار من أسلحتهم في الشوارع وتوزيع حلوى على المارة في الطرقات. أما المناسبة، فسقوط مدينة القصير السوريّة!
إحتفالات في الساحة الرئيسية لمدينة القصير بعد سيطرة الجيش السوري عليها وطرد المسلحين. (رويترز) |
مفارقة بسيطة تكفي لأي مراقب ليدرك صاحب هويّة الانتصار الخاطف المحقّق في تلك البلدة السوريّة، الواقعة على مسافة كيلومترات قليلة شمال شرق لبنان. إنه حزب الله، هو صاحب المعركة، وهو صاحب الإنتصار، وهو المعني أكثر من سواه بنتائجها وما بعدها، وما بعد ما بعدها، بحسب ما يقول أمينه العام السيّد حسن نصرالله.
أوساط معنيّة بما حصل هناك قالت إن الأيام المقبلة ستكشف الكثير من الوقائع العسكريّة والميدانيّة لتلك المعركة. لكن خلاصة انتهائها بهذه السرعة، تعود إلى عدة عوامل تكتيكّية. أوّلها كثافة النار التي أستُخدمت من قبل الجيش السوري لدكّ آخر جيوب مسلحي المعارضة و«جبهة النصرة». ثانيها تحديد مخابئ آمري المجموعات الأساسيّة وضربها، كما تدمير غرفة العمليات المركزيّة لجهاديّي «النصرة» الذين يقودون المعارضة في المدينة، ما أدّى إلى ضرب آليّة التحكّم والسيطرة لهؤلاء المسلحين، كما أفقدهم القدرة على الإتصال والتواصل فيما بينهم. جاء ذلك فيما الحصار المضروب عليهم بدأ يعطي مفعوله، خصوصاً لجهة الإمداد بالوقود وصولاً إلى ثقل الخسائر البشريّة التي وقعت في صفوف المسلحين. فقد كانت لدى الجهة المهاجمة يوم الإثنين الذي سبق السقوط، تقديرات بأن عدد قتلى المسلحين قد قارب الألف ، فضلاً عن نحو 400 جريح باتوا يشكّلون عامل ضغط كبير عليهم، فيما خلت المدينة من وجود أي مدني بعدما نزح جميع أهلها إلى خارجها.
عند هذا الحدّ، بادر الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى الإتصال بقيادة حزب الله، عارضاً وساطة لإنسحاب من سمّاهم «المدنيّين والجرحى». أدرك الحزب سريعاً أن طلب جنبلاط منقول من القصير المحاصرة إلى بيروت عبر أكثر من جهة إقليميّة، تركيّة وخليجيّة. فاطمأن إلى أن نصره وشيك. وكان جوابه واضحاً: هناك طريق وحيدة تركناها مفتوحة صوب بلدة الضبعة المجاورة. وهي الطريق التي اعتمدها المدنيّون للخروج من الحصار بشكل آمن وسالم، غير أن المسلحين حاولوا التذاكي طيلة الأيام الماضية، وأستخدموها لاستقدام المزيد من التعزيزات. وعلى الرغم من ذلك قرّرنا تركها مفتوحة. الآن يمكنهم الخروج عبرها.
وهكذا كان. ليل الثلاثاء في 4 حزيران (يونيو)، نفّذ نحو ألف مسلح وجريح عمليّة «هروب غير منظّم» من مدينة القصير، انتهت إلى تأكيد صحّة كلام السيد نصرالله لأنصاره في 25 أيار (مايو) الماضي، حين قال لهم: «كما وعدتكم بالنصر سابقاً، أعدكم بالنصر مجدّداً». إنتهت المعركة هناك، لكن نتائجها على أكثر من صعيد، بدأت لتوها.
أولى هذه النتائج، يأتي أثرها النفسي العام على فريقَي الصراع في سوريا ولبنان. مسألة قد تكون مكتومة أو كامنة أو مازالت في صيغة الإنكار لما حدث. لكن يكفي تدليلاً على ذلك أن خصوم حزب الله في سوريا وخصوصاً في لبنان، كانوا قد ملأوا وسائل الإعلام طيلة الأسبوعَين الماضيَين، بكلام عن أن التنظيم الشيعي قد غرق في وحول حرب إستنزاف لن يخرج منها في القصير، وإن تلك «المدينة الصامدة» قد تحوّلت قصير–غراد، تيمّناً بمدينة ستالين-غراد الروسيّة! ذلك، قبل أن تأتي الأحداث هناك سريعة خاطفة، لتؤكّد خطأ حسابات هؤلاء ودقّة وفاعليّة عمل حزب الله.
لكن النتائج الحسيّة على الأرض تبقى الأهم. وهي في التقديرات الأوليّة حتى اللحظة، موزّعة على ثلاث جبهات: سورياً ولبنانياً وحتى إسرائيلياً.
سورياً، يمكن قراءة نتائج سقوط القصير عسكرياً محلياً، كما سياسياً وخارجياً. على المستوى الأول تكشف أوساط معنيّة بالمعركة، أن ما حصل هناك جاء من ضمن مخطّط ميداني شامل تمّ الإعداد له بدقّة وتأنّ وصبر، طيلة أكثر من عام. وهو مخطّط ستبدأ الآن تباشير مراحله التالية. وكان قد عُرض سابقاً، الأهميّة الاستراتيجيّة لمدينة القصير، خصوصاً لجهة السيطرة منها كلياً على ريف دمشق الغربي والشمالي الغربي، كما السيطرة على طرق التواصل الحيويّة بين دمشق وحمص، وبين دمشق والساحل السوري ذات الثقل العلوي. لكن ما تكشفه الأوساط نفسها يذهب أبعد، إذ تؤكّد أن سقوط القصير جاء بعد إنجاز خطوات عسكريّة ضخمة في الداخل السوري. وهي تمثّلت بشقّ طريق آمنة ومباشرة بين دمشق ومدينة حلب شمالاً. طريق عسكريّة لا علاقة لها بالطريق الدوليّة السريعة الموجودة أصلاً بين المدينتين. بل استحدثت هذه الطريق خلال الأشهر السبعة الماضية، وهي بطول 122 كيلومتراً، تمرّ كلها في مناطق خاضعة لسيطرة النظام، وتتجنّب الجيوب القليلة المتمرّدة والتي ما زالت واقعة بين المدينتَين السوريّتين الأساسيتَين. علماً أن عدداً من هذه الجيوب قد تمّت «معالجتها» نهائياً أثناء شقّ الطريق العسكريّة الجديدة. وفي وقت متزامن، تمّ استحداث طريق عسكريّة أخرى بطول نحو 20 كيلومتراً، تربط بين حلب ومطار حلب. وقد شارفت طريق ثالثة على الإنجاز بين حلب والمدينتَين الشيعيّتَين المحاصرتَين من قبل «جهاديّي جبهة النصرة»، النبل والزهراء في ريف حلب أيضاً، ومنهما إلى مطار منغ القريب من الحدود السوريّة-التركيّة. هكذا، تكشف تلك الأوساط أن خطوط النقل والإمداد الكامل، بشرياً ولوجستياً وتسليحاً وعتاداً، باتت مؤمّنة بين كافة المناطق السوريّة الرئيسيّة الخاضعة للسلطات السوريّة. وهو ما ستبدأ ترجمته بعد سقوط القصير، في أكثر من اتّجاه. أولاً السيطرة على ريف دمشق والغوطة الشرقيّة وبالتالي إقفال آخر ثغرة في الحدود مع لبنان، في عرسال. بعدها تصير كل الخيارات ممكنة: الانتقال جنوباً في اتّجاه درعا لإقفال الحدود مع الأردن، أو الذهاب شمالاً وصولاً إلى الحدود التركيّة.
أما لبنانياً، فقد يكون من المبكر الكلام عن نتائج سياسيّة لانتصار حزب الله. غير أن متابعة هذا الأمر ممكنة بسهولة، إذ يكفي رصد المواقف المقبلة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط. فهو كان قد إبتعد عن حزب الله طيلة الأشهر الأخيرة، ما سمح للفريق السنّي بزعامة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بتكوين أكثريّة طفيفة وهشّة في المجلس النيابي. فهل يعيد جنبلاط مرّة أخرى تموضعه بعد القصير، أم يبدأ عمليّة انعطاف تدريجي، طبقاً لموازين القوى الجديدة؟ مسألة تقتضي إنتظار التداعيات الميدانيّة والسياسيّة اللاحقة. سينتظر جنبلاط ماذا سيحصل سورياً على الأرض، خصوصاً في المناطق المجاورة لمحافظة السويداء، ذات الثقل الدرزي جنوب سوريا. كذلك سينتظر في السياسة، ماذا سيفعل المحور العربي والإقليمي والغربي الذي كان داعماً لمسلحي المعارضة. بعدها يحدّد تموضعه لبنانياً بشكل آمن ومن دون رهانات خاطئة وخيارات انتحاريّة، كما أوشك أن يفعل منذ العام 2008.
لكن لبنانياً أيضاً، ثمة حذر أمني كبير من نتائج معركة القصير. حذر يتمثّل في الخشية من أن يعمد «جهاديّو جبهة النصرة» إلى تنفيذ عمليات انتقاميّة في مناطق لبنانيّة معينة، خصوصاً ذات الثقل الشعبي الشيعي. وذلك على طريقة انتحاريّي «القاعدة» أو بواسطة سيّارات مفخّخة تضرب المدنيّين. علماً أن المعنيّين بهذا الأمر لبنانياً يدركونه، وهم بدأوا الإجراءات الممكنة لرصده وتجنّبه.
تبقى النتائج الأخيرة على المستوى الإسرائيلي. ذلك أن الاسرائيليّين تابعوا بدقة وعن كثب تفاصيل معركة القصير، من زاوية اهتمامهم بأداء عدوّ شرس لهم، هو حزب الله. وهم عمدوا بكلّ الوسائل المتاحة لا شكّ، إلى رصد كل تفصيل هناك: أعداد القوى المهاجمة وأسلحتها وتجهيزاتها وتكتيكاتها الميدانيّة. لكن النتيجة الأهم إسرائيلياً هي أن القصير شكّلت أوّل معركة هجوميّة يخوضها حزب الله، بعد ثلاثين عاماً من إعتماده عقيدة عسكريّة دفاعيّة. وهو ما قد يثير القلق على الجانب الجنوبي من الحدود اللبنانية: ماذا لو صار هذا التنظيم الذي خبرت إسرائيل قدراته الدفاعيّة المذهلة، قادراً على تكرار إنجازاته في الهجوم أيضاً؟
إنها القصير، وقصصها بعد اليوم لن تكون قصيرة أبداً.
– عن موقع «المونيتور»
Leave a Reply