تنهار المؤسسات في لبنان، الواحدة تلو الأخرى، وكان آخرها المجلس الدستوري الذي شكّل تكوينه أبرز الإصلاحات للنظام السياسي، للبت بدستورية القوانين والحد من جموح السلطات وإستصدار قوانين بما لا يتوافق مع الدستور الذي ينظم عمل رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، إضافة الى أحكام منها ما يتعلق بالموازنة العامة.
مجلس النواب اللبناني |
فاللجوء الى المجلس الدستوري هو لمَن يشعر أن القانون يظلمه في مكان ما، وقد أعطي حق الطعن لرئيس الجمهورية وعشرة نواب ورؤساء الطوائف الروحية فيما يتعلق بطوائفهم، وقد نجح المجلس في رد طعون لعدم صحتها، وقبل طعون كانت مخالفة للدستور، وكان آخرها رد طعن «جبهة النضال الوطني» برئاسة النائب وليد جنبلاط، لقانون تمديد المهل بما يتعلق بالترشيحات للإنتخابات النيابية، التي يجب أن تحصل خلال مهلة ستين يوماً من انتهاء ولاية مجلس النواب الذي كان رئيسه يسعى الى إصدار قانون للإنتخابات يحظى بتوافق مكونات المجتمع اللبناني السياسية والطائفية، فلم ينجح بعد أشهر من المداولات والنقاشات والاجتماعات التي لم تتوصل الى نتيجة بسبب الخلافات حول مشاريع وإقتراحات القوانين المطروحة من مشروع الحكومة الذي أعتمد النظام النسبي و13 دائرة متوسطة، الى إقتراح القانون المقدم من «تكتل الإصلاح والتغيير» برئاسة العماد ميشال عون واعتمد على مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» الذي ينص على أن ينتخب كل مذهب لنوابه، وهو نقل لبنان من الطائفية السياسية الى المذهبية السياسية، ويكرّس التشرذم بين اللبنانيين، ويبتعد عن نصوص إتفاق الطائف التي تدعو الى قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي، والى إلغاء الطائفية عبر هيئة وطنية، إلاّ أن هذه الإصلاحات لم يتم تنفيذها، مما جعل لبنان ينحدر من جديد نجو حرب أهلية مؤجلة، لأن لا وجود لقرار دولي وإقليمي بإستخدام ساحة لبنان في هذه المرحلة، التي تشتعل فيها سوريا بحريق بدأ يقترب من الحدود اللبنانية – السورية.
فالتمديد لمجلس النواب الذي تمّ بموافقة أغلبية الكتل النيابية بإستثناء نواب «التيار الوطني الحر» الذين لجأوا الى المجلس الدستوري بطعن، سبقهم إليه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الذي أستخدم صلاحياته الدستورية للطعن أيضاً، لأنه لا يرى في الأسباب الموجبة التي حصل بموجبها إصدار قانون التمديد لمدة 17 شهراً، ليست مقنعة، أمنياً ولا علاقة لها بإكتشاف النفط كما ورد في إقتراح القانون الذي قدمه الوزير نقولا فتوش، وقد إلتقت مصالح الكتل النيابية على التمديد كل منها وفق قراءتها للأوضاع السياسية والأمنية وظروفها الذاتية، إذ التقى الرئيس نبيه برّي مع النائب وليد جنبلاط على ضرورة الحفاظ على الإستقرار الأمني، ووافقهما «حزب الله» الذي يركّز جهده على الوضع في سوريا وإنخراطه في القتال هناك، ويسعى كي لا تنعكس أحداث سوريا على الداخل اللبناني حيث دعا أمينه العام السيد حسن نصرالله، أن يبقى الصراع على الأراضي السورية، بين مؤيدي النظام و«حزب الله» منهم، وداعمي المعارضة، في حين يرى «المستقبل» أن ظروفه التنظيمية والمالية وغياب رئيسه سعد الحريري عن لبنان، وتغلغل القوى الإسلامية السلفية في ساحته السّنّية، دفعه للقبول بالتمديد الذي عارضه «التيار الوطني الحر» ولم يماشِ حلفاءه حيث حاول إقناعهم بأن الإنتخابات يجب أن تحصل في موعدها، وإن تأجّلت لشهرين لأسباب تقنية فلا مانع، أما التمديد الواسع فهو ضده، لأن المرحلة الحالية التي إستعاد فيها شعبيته المسيحية، لأسباب تتعلق بتبنّيه للمشروع الأرثوذكسي، وقراءته الصحيحة لما سمي «ثورات عربية» ووصول قوى إسلامية تكفيرية، وما قد يصيب المسيحيين في لبنان والمنطقة من قتل وتشريد وتهجير، قد لا تحصل مرة ثانية، لأنه بإستطاعته زيادة مقاعده النيابية في دوائر الكورة والبترون والدائرة الأولى في بيروت (الأشرفية) والدائرة الثانية أيضاً، إضافة الى إختراقات في زحلة والبقاع الغربي، وهو ما قد يرفع عدد نواب 8 آذار و«التيار الوطني الحر» الى حوالي 66 نائباً، ليصبحوا الأكثرية دون الإستعانة بالنائب وليد جنبلاط، لكن تقديرات الرئيس برّي و«حزب الله» وحلفائهما، كانت متعارضة مع طرح العماد عون، فافترقا في التمديد، دون أن يختلفا في السياسة.
فمَن كان مؤيّداً للتمديد، ومَن كان ضده، كانت له قراءته، وقدم كل منهما حججه وقرائنه، وهذا ما تمّ نقله الى المجلس الدستوري الذي يتم تعيين أعضائه مناصفة بين مجلسي النواب والوزراء، ويتوزعون على أساس طائفي ومذهبي، ويخضعون للمحاصصة السياسية الطائفية، وهو ما ظهر من خلال الإصطفاف الذي حصل داخل المجلس، إذ وقف الأعضاء المسيحيون الى جانب رئيس الجمهورية والعماد عون والبطريرك الماروني الذي رفض التمديد، وكان صاحب دعوة لإجراء الإنتخابات ولو على قانون الستين الذي ألقى الحُرم الكنسي على كل مَن يترشّح عليه، لكن رفع شعاراً، أن الإنتخابات على قانون سيء، أفضل من عدم حصولها، وأن سلبية تأجيلها ستظهر لبنان دولة فاشلة، وقد شذّ كل من حزبي «القوات اللبنانية» و«الكتائب» مع نواب مستقلين مسيحيين، ارتبطوا مع «تيار المستقبل» بالموافقة على التمديد، إلاّ أن ما حصل هو أن «المستقبل» إنقلب على التمديد بعد أن أبلغت الإدارة الأميركية المسؤولين في لبنان، أنها تؤيّد إجراء الإنتخابات وحذّرتهم من أن تأجيلها لن يكون أمراً مقبولاً، وفعلت أيضاً الدول الأوروبية، مما حدا بالرئيس سعد الحريري الى الإيعاز للأعضاء بين السّنّيين في المجلس الدستوري الى التصويت الى جانب الطعن، وقد تمّ تفسير الموقف سياسياً، بأن خسارة المعارضة السورية لمعركة القُصَّير سيتمّ تعويضها في لبنان، بحصول القوى الحليفة لأميركا على الأكثرية النيابية، لكن المفاجأة كانت أن النائب جنبلاط لم يستجب للطلب الأميركي برفض التمديد، وقد رأى في الإنجاز العسكري الذي حققه الجيش السوري وبمشاركة «حزب الله» في القُصَّير إضافة الى طرد المسلحين من محافظة حمص التي هي ربع مساحة سوريا والتقدّم نحو حلب، أن النظام لن يسقط، وهي المرة الثانية التي يفشل رهانه على الولايات المتحدة بأنها ستُسقِط النظام، فهو راهن على ذلك في العام 2005، وتراجع عنه في العام 2006 بعد هزيمة العدو الإسرائيلي في حربه ضدّ لبنان، وزار واشنطن وعاد بشعار أن الإدارة الأميركية لا تريد إسقاط النظام بل تغيير سلوكه، وأبلغ 8 آذار أن مشروعهم إنتصر، وهو يعترف بأن أميركا خذلت حلفاءها في سوريا من المعارضين، كما فعلت مع حلفائها في لبنان في أحداث 7 أيار 2008 التي علّمت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي درساً، أن يقرأ الأحداث برؤية صحيحة ولا يقرأها خطأ، وهو المعروف بأنه قارئ جيد، لكنه ومنذ أن فكّ تحالفه مع سوريا لم يتحقق أي من رهاناته، لذلك هو تمسّك بالتمديد لمعرفة مصير الوضع في سوريا، ووقف العضو الدرزي القاضي سهيل عبد الصمد الى جانب العضوين الشيعيين أحمد تقي الدين ومحمد بسام في عدم حضور جلسة المجلس الدستوري الذي هو بحاجة الى ثمانية أعضاء لتأمين النصاب القانوني، واعتبر جنبلاط أن «المستقبل» أخلّ بتعهده فأيّد التمديد في مجلس النواب، وعمل على إسقاطه في المجلس الدستوري.
وانعكس عدم انعقاد المجلس الدستوري، على دور هذه المؤسسة التي هي محكمة دستورية، ودخلت في لعبة المصالح السياسية والطائفية، وهي التي يفترض أن تكون مستقلة، كما مفترض أن يكون القضاء أيضاً، الذي لم يتحوّل الى سلطة مستقلة، ومازال خاضعاً للسلطة السياسية مما يعطّل دوره، وانضم المجلس الدستوري الى المؤسسات الأخرى في ضرب الثقة به، وكان عليه أن يجتمع بعيداً عن المؤثرات السياسية، حيث تحدّث رئيسه الدكتور عصام سليمان، أن أعضاء المجلس لن يفرّطوا بكرامة المجلس ولا بصدقية أعضائه ومسيرتهم المهنية والأكاديمية والشخصية والوطنية، لكن ما كان يرغب به رئيس المجلس أن يكون للأعضاء قناعاتهم بناء على نصوص الدستور الذي يحتكمون إليه ما إذا كان قانون التمديد يتطابق أو يتناقض معه، لأن الظروف الأمنية في لبنان هي نفسها منذ العام 2005 الذي اغتيل فيه الرئيس رفيق الحريري، وما تبع ذلك من تفجيرات وإغتيالات وحرب تموز في العام 2006 وإعتصام 8 آذار في مطلع 2007 الى أحداث أيار 2008، وما حصل من إستقالة للوزراء الشيعة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وتعليق أعمال مجلس النواب والفراغ في رئاسة الجمهورية بعد إنتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، حيث لم يمنع ذلك من إجراء إنتخابات عام 2009، نتيجة اتفاق الدوحة وبقانون الستين، حيث يؤكّد المعارضون للتمديد، أن المبرر الأمني ليس سبباً للتمديد، وهو ما يؤيّده أعضاء في المجلس الدستوري ويرون أن ما حصل في فترة الحرب الأهلية بين 1976 و 1990، لا ينطبق على المرحلة الحالية التي نمر خلالها بتوترات أمنية، إلاّ أن مَن أتفقوا على التمديد، يمكنهم أن يتفقوا على تثبيت الوضع الأمني ويجرون الإنتخابات النيابية، وتداول السلطة، ولأن تجديد الوكالة تعود الى الشعب وليس الى الوكيل.
أما المؤيّدون للتمديد، فينتظرون تطورات الوضع السوري، الى ما بعد العام 2014، وهو التاريخ الذي تنتهي فيه ولاية الرئيس بشار الأسد، حيث ستكون هذه الفترة هي لإستقطاع الوقت، دون أن ينفجر الوضع الأمني في لبنان، الذي يمر من قطوع الى آخر، وأن الإستقرار هو ما تعمل له الدول الكبرى، والتي تريد تعزيزه في إجراء الإنتخابات للتأكيد على أن لبنان فوقه سقف دولي يمنع إمتداد الحريق السوري إليه، وحصول إنفجار أمني واسع.
لقد نجح الممدّدون في تمرير قانونهم، بتعطيل أعمال المجلس الدستوري، ليس خوفاً من الفشل في الإنتخابات النيابية التي لن تكون نتائجها مختلفة عن العام 2009، بل حماية للسلم الأهلي كما يقول الرئيس نبيه برّي الذي يتقدّم الأمن عنده على السياسة.
Leave a Reply