يوصف رؤساء الجمهوريات في لبنان، بأنهم ينتخبون على أنهم «فتيان العرب الأغر»، كما كان يُطلق على الرئيس الراحل كميل شمعون، ليخرجوا من القصر الجمهوري أكثر انتماءً “لمارونيتهم السياسية”، وتطرفاً في مواقفهم الطائفية، وانحيازاً الى سياسة غربية أو عربية موالية للغرب، وقد استثني من هؤلاء الرئيس إميل لحود الذي بقي وفياً لقناعاته المؤيدة للمقاومة، والمتحالفة مع سوريا في خطها المقاوم، ومناهضاً للغرب الذي رفض التمديد له لولاية ثانية، وفرضت أميركا برئاسة جورج بوش وفرنسا برئاسة جاك شيراك على مجلس الأمن الدولي إصدار قرار حمل الرقم 1559 الذي يمنع تعديل الدستور اللبناني في مادته 49، لقطع الطريق على مجلس النواب التمديد الذي لم يلتزم بأكثريته بإملاءات واشنطن وباريس، ودافع عن السيادة اللبنانية والقرار الوطني المستقل.
وفي سنته الأخيرة من ولايته، يستعيد رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان سيرة وتجارب أسلافه الذين عملوا أولاً للتجديد أو التمديد لهم، كما قدموا أوراق اعتمادهم الى مَن يؤمن لهم ذلك، كما في انتخابهم أيضاً، لأن رئاسة الجمهورية لا تُصنع في لبنان، بل في مراكز القرار الدولي والإقليمي والعربي.
وبالرغم من أن الرئيس سليمان يؤكّد في أكثر من مناسبة، أنه لن يبقى دقيقة واحدة في القصر الجمهوري، وهو لن يكرّر أخطاء مَن سبقه ومددوا، لأنه يعلم ماذا حصل من وراء ذلك داخلياً، وكيف انتهى رؤساء الجمهورية الذين مُدّد أو جُدّد لهم، حيث سقط بشارة الخوري بثورة بيضاء، وخلفه الرئيس شمعون بثورة حمراء عندما طرح التجديد، وتراجع الرئيس فؤاد شهاب عن التجديد في اللحظات الأخيرة، وسلّم الرئاسة الأولى لخلفه شارل حلو، وأبقى الشهابية حاكمة في السياسة نهجاً وفي المكتب الثاني (مخابرات الجيش) أسلوباً وفي الإدارة قبضة، وانتهى عهد الرئيس حلو بالتأسيس لحرب أهلية بدأت شرارتها مع العام 1968، وصعود الكفاح الفلسطيني بعد هزيمة حزيران عام 1967، وانتقال فلسطينيين الى لبنان واتخاذ منطقة العرقوب قواعد عسكرية لهم، للقيام بعمليات ضد العدو الإسرائيلي.
فهذه التطورات الدراماتيكية التي كانت تنتهي بها العهود الرئاسية، حيث ختم الرئيس سليمان فرنجية عهده بحرب داخلية، ودخول القوات السورية الى لبنان لوقفها، فإن الرئيس الياس سركيس الذي انتُخِب قبل انتهاء ولاية فرنجية، فإن عهده انتهى باحتلال “إسرائيل” للبنان، وتنصيب بشير الجميّل رئيساً للجمهورية المدعوم إسرائيلياً وأميركياً، لكنه لم يستلم رئاسة الجمهورية فاغتيل بانفجار في بيت الكتائب بالأشرفية، ليخلفه شقيقه أمين وينتهي عهده وهو كان يطمح للتجديد الى تواصل الحرب الأهلية، وفراغ في رئاسة الجمهورية ملأتها حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون الطامح لرئاسة الجمهورية وسعى إليها بكل قوته، وعطّل مع “القوات اللبنانية” وقيادات مسيحية، وصول مخايل الضاهر للرئاسة، بعد اتفاق سوري – أميركي على اسمه بين الرئيس حافظ الأسد والموفد الأميركي ريتشارد مورفي، الذي نقل عنه قوله «الضاهر أو الفوضى»، فلم يُنتخب الضاهر وعاش اللبنانيون عامين من الحروب، تنوّعت أسماؤها بين «حرب التحرير» خاضها عون ضد الوجود السوري في لبنان، ثمّ «حرب إلغاء» مع القوات اللبنانية بعد اتفاق الطائف الذي انتخب على اثره رينيه معوض رئيساً للجمهورية، لكنه اغتيل في يوم الاستقلال من العام 1990، لينتخب مباشرة بعده وفي أقل من 24 ساعة الرئيس الياس الهراوي، الذي أنهى مع بداية عهده تمرّد العماد عون بالتعاون مع القوات السورية التي عُهد إليها وقف الحرب الأهلية، وفتح المعابر، وتوحيد الجيش، في وقت كانت القيادة السورية وبدعم أميركي وخليجي تقوم برعاية تطبيق اتفاق الطائف وتحقيق السلم الأهلي.
وهكذا استعاد لبنان وحدة أرضه ومؤسساته، وسقط مشروع التقسيم، وتعهّدت المقاومة تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، فلاقت دعماً سورياً، لم يكن محل رضى أميركا، فاهتزّت العلاقة السورية – الأميركية، وبدأ يتأثر الوضع الداخلي اللبناني، وافترق الأميركيون عن السوريين برفض تأييدهم لانتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، على خلفية تأييده للمقاومة وصياغة علاقة تناغم معها، مع رفضه للصدام بها، وهو ما أزعج الأميركيين وحلفاء لهم في لبنان والدول العربية، مما تسبّب بمشاكل بين لحود ورئيس الحكومة في عهده الرئيس رفيق الحريري الذي كان من أصحاب الدعوة.
إلى أن لبنان ليس بحاجة للمقاومة وسلاحها بعد تحرير الجنوب عام 2000، وقد ماشاه في طرحه النائب وليد جنبلاط الذي طرح نظرية عن لبنان، فهل يكون «هانوي أم هونكونغ»؟ وهذا ما ادى الى تباعد بينه وبين القيادة السورية، بعد أن كان الافتراق قد بدأ في نهاية العام 1998 برفضه انتخاب الرئيس لحود وتحريضه الرئيس الحريري على عدم ترؤس حكومة في عهده، وقد شجّع موقفي الحريري وجنبلاط من سوريا والمقاومة، بأن يلاقيهما البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، في طرحه جدوى بقاء الجيش السوري في لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي، وهكذا بدأت تتجمّع مع نهاية عهد الرئيس لحود مجموعة ضغط مسيحية داخلية عرفت بـ «لقاء قرنة شهوان» رعته بكركي، ثمّ توسّع الى «لقاء البريستول» الذي انضمّ إليه قطبان مسلمان رفيق الحريري (سنّي) وجنبلاط (درزي)، ليعطيا طابعاً وطنياً للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان. وقد تمّ تتويج هذا الأمر بصدور القرار 1559 الذي يطالب بانسحاب القوات السورية، وقد فتح هذا القرار لبنان على الفتنة الداخلية، لأنه في أحد بنوده طالب بنزع سلاح المقاومة.
ومنذ تسع سنوات ولبنان يعيش مؤامرة عليه، ومن أدواتها قوى لبنانية، تطالب المقاومة بتسليم سلاحها، حتى عندما كانت تتعرّض للعدوان الإسرائيلي في صيف 2006، وقد تمثّل ذلك فيما بعد أيضاً، بتأسيس محكمة دولية وتوجيه التحقيق اتهامه لعناصر من “حزب الله” باغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث أُريد من هذه الجريمة إشعال فتنة سنّيّة – شيعية، بدأت منذ وقوعها في 14 شباط 2005، وهي ظهرت في أحداث الجامعة العربية في عام 2007 والتي تنقّلت في أكثر من منطقة يتواجد فيها سُنّة وشيعة، وتمّ تتويج هذه الحوادث في 7 أيار 2008 عندما منعت المقاومة بالتعدي على شكبة اتصالاتها حيث انتهى أيار باتفاق الدوحة الذي أدّى الى انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
والرئيس التوافقي الذي تمّ اختياره بموافقة دولية وعربية وإقليمية، وباتفاق أميركي – سوري – قطري، لم يعد كما كان يُعرف أنه حليف سوريا وصديق رئيسها بشار الأسد، وداعم للمقاومة، بل تغيّر الرئيس سليمان في السنة الأخيرة لعهده، فبات يشتكي على سوريا الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وقطع اتصالاته بالرئيس السوري التي كانت أسبوعية، وحاول ربطها بموضوع ميشال سماحة ونقله متفجرات الى لبنان، ثمّ بدأ يميل الى الموقف العربي المناهض للنظام السوري الذي يتهمه مع حلفائه في لبنان، أنه أخذ خياراً سياسياً مع أميركا ودول الخليج، وهو يسوّق للتمديد وإن كان يرفضه كما يقول، لكن النائب سليمان فرنجية المطّلع على خفايا ما يحصل، يكشف أن سليمان يسعى للتمديد، وهو فاتح زعماء في الخليج لاسيما في قطر والسعودية، بأنه هو القادر بعد مرحلة بشار الأسد في سوريا، أن يتناغم مع السياسة العربية، التي ترفض هيمنة إيران على لبنان عبر سيطرة «حزب الله» عليه، وهو قادر على أن يؤمن الغطاء الشرعي لذلك، إضافة الى الغطاء المسيحي، وهو على تناغم مع البطريرك بشارة الراعي.
هذا التوجه عند رئيس الجمهورية، كما يؤكّد فريق 8 آذار و«التيار الوطني الحر»، هو الذي دفعه الى تقديم ما يشبه الشكوى على سوريا لاختراقها سيادة لبنان وقصف أراضيه، واستدعى ممثل الأمم المتحدة في لبنان وسلّمه مذكرة الى أمينها العام بالخروقات السورية، وكذلك الى ممثل جامعة الدول العربية بعد أن رفض وزير الخارجية عدنان منصور القيام بذلك، لأن ما بين لبنان وسوريا معاهدة أخوة وتعاون وتنسيق، يجب أن تُطبّق، كما لا يجوز تقديم شكوى على شقيق، حيث تمرّ سوريا في حرب عليها، وتتواجد على أرضها عشرات المنظمات الجهادية التكفيرية، وهي التي تلاحقها القوات السورية في لبنان بقصفها للحدود مع لبنان، حيث تتمركز، كما يقول منصور الذي شُنّت عليه حملة من قوى 14 آذار، اتهمته بالخيانة والعمالة للنظام السوري، وأشادت برئيس الجمهورية الذي دعّمت موقفه بمذكرة طالبت فيها، أن يسحب «حزب الله» مقاتليه من سوريا، وهو ما اعتبره الرئيس سليمان يتوافق مع طروحاته.
وقد استدعى لهذه الغاية رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، وطالبه بسحب الحزب لمقاتليه والتزام إعلان بعبدا، فردّ عليه رعد، بأن يقوم هو بدعوة سفراء الدول الذين يدعمون الجماعات التكفيرية والإرهابية المتواجدة على حدود لبنان وداخله والتي قتلت لبنانيين، ودخلت الى لبنان واغتالت ضباطاً وجنوداً في الجيش اللبناني، وأن يسأل الحاضنين لهذه الجماعات من قوى 14 آذار، التي بدلاً من أن تشتكي من أن “حزب الله” يقاتل مع النظام في سوريا، لتتوقف هي عن استقبال المسلحين السوريين الذين يتمّ تنظيمهم في لبنان لقتال «حزب الله» وحلفاء سوريا فيه، وهو ما ظهر في معارك طرابلس، والاغتيالات التي مورست ضد عسكريين ومدنيين في عرسال وجرودها، وكان آخرها مقتل أربعة مواطنين من آل جعفر وأمهز واوغلو، على يد عناصر من «جبهة النصرة» متواجدة في عرسال وتلقى دعم جهات فيها.
وهذه الجريمة كان المقصود منها، إشعال صراع مذهبي بين عرسال السّنّية والبلدات الشيعية المجاورة لها، لكن تحرُّك «حزب الله» وحركة «أمل» وفعاليات العشائر، أخمد النار ولم يطفئها، لأن مثل هذه المحاولات الإجرامية ستتكرّر، لزج المقاومة وجمهورها في اقتتال داخلي، وفتح جبهة داخلية للحزب، وهو ما يسعى إليه الشيخ أحمد الأسير في صيدا منذ أكثر من سنة، حيث يلقى الرعاية الرسمية له من الدولة التي سمحت له بإقامة «مربع أمني» في عبرا، يعمل على توسيعه للسيطرة على صيدا، كما فعل الأسبوع الماضي، في مناورة عسكرية وحربية روعت المواطنين وقصد منها إظهار قوته باستخدامه مسلحين سوريين، وكان يهدّد بقطع شريان المقاومة بين الجنوب وبيروت وضاحيتها الجنوبية، لكنه لم ينجح حتى الآن، لأن الجيش يتصدى له، وأبلغه أن طريق الجنوب خط أحمر لأنه طريق المقاومة. وهكذا تناغمت شكوى رئيس الجمهورية ضد سوريا الى الأمم المتحدة، ومذكرة 14 آذار الى الرئيس سليمان ضد «حزب الله» ومقاومته وسلاحها، وقتاله في سوريا حيث سبقه إليه «تيار المستقبل» وقوى سلفية كما أعلن السيد نصرالله، ليتكامل مع مقتل أربعة مواطنين، وتحرّك الأسير في صيدا واستمرار التوتر في طرابلس وقطع طرقات في أكثر من مناطق، وكل ذلك لدفع ثمن التمديد وقطع رأس المقاومة.
Leave a Reply