ضربت «الحال الأسيرية» في صيدا عسكرياً، لكن لها امتدادات في كل لبنان، وهي نتاج صعود «الاسلام التكفيري والجهادي»، الذي ظهر نجمه منذ الثمانينات عندما وضعه الأميركيون في مواجهة الشيوعية، ومحاربتها في أفغانستان بدعم من دول خليجية، حيث برز اسم اسامة بن لادن وحركة «طالبان» وأعلن عن انشاء «تنظيم اسلامي جهادي عالمي» عرف باسم تنظيم «القاعدة» بدأت تنتسب له منظمات وتيارات اسلامية في كل أنحاء العالم.
وفي لبنان بدأت التنظيمات الاسلامية المتطرفة تظهر أيضاً، بمرحلة الثمانينات من القرن الماضي، واتخذت من الشمال وعاصمته طرابلس نقطة انطلاق، حيث خرج من رحم «الجماعة الاسلامية» التي تتبع فكر «الإخوان المسلمين» الذي أطلقه مؤسسه حسن البنا في مصر، وتمكنت «حركة التوحيد الاسلامي» بقيادة الشيخ سعيد شعبان والشيخ هاشم منقارة وغيرهما من السيطرة على طرابلس، واقامة «امارات اسلامية» فيها، بعد شن عمليات عسكرية على الجيش السوري المتواجد فيها واخراجه من المدينة التي دخلها رئيس منظمة التحرير الفلسطنية ياسر عرفات مطلع العام 1983 بعد أن خرج من بيروت إثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف عام 1982، إلى تونس، وعاد ليتمركز في الشمال مستفيداً من وجود مؤيدين ومنتسبين لحركة «فتح» من لبنانيين وفلسطنيين، ومستنداً إلى سوريين ينتمون إلى «الاخوان المسلمين» فروا من سوريا، وكانوا يلقون دعم عرفات لهم أثناء مواجهتهم للنظام السوري في مدينة حماه، في اعوام 1980، 1981، 1982، حيث تعود جذور عرفات الفكرية والسياسية إلى «الاخوان المسلمين» الذين تعرّف عليهم أثناء دراسته في القاهرة في منتصف الخمسينات.
هذا «الوجود الاسلامي المتطرف» تم القضاء عليه في العام 1987 وتشتت، إلى أن ظهر في نهاية العام 1999، عندما واجه الجيش اللبناني مجموعة مسلحة في جرود الضنية اطلقت على نفسها اسم «جماعة التكفير والهجرة»، يرأسها شخص يدعى اسامة كنج يحمل الجنسية الأميركية، وقد قتل في المعارك العسكرية مع الجيش الذي اغتال له غدراً ضابطاً من الجيش هو المقدم جرجي النداف مع عدد من العسكريين، وقد قضي على هذه المجموعة وتم اعتقال عدد من أفرادها، أحيلوا إلى القضاء الذي حكم عليهم بعقوبات بينها الاعدام، لكن عفواً صدر عن مجلس النواب في تموز العام 2005، افرج عنهم بقانون مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي حكم عليه بالاشغال الشاقة المؤبدة، من ضمن صفقة تولاها رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي ساهم عبر كتلته النيابية وبعد خروج القوات السورية من لبنان، وسيطرة قوى 14 آذار على المؤسسات الدستورية، باخراج عناصر تنظيم ارهابي من السجن قام باغتيال ضباط وعناصر من الجيش اللبناني، والافراج عن جعجع المحكوم عليه من قبل القضاء باغتيال رئيس حكومة لبنان رشيد كرامي في طوافة عسكرية للجيش اللبناني، وفي الوقت الذي كان فريق 14 آذار يطرح شعار «الدولة أولاً».
فقانون العفو عما كان يسمى «مجموعة الضنية» الاسلامية التكفيرية، ساهم في نمو حركات اسلامية متطرفة، حيث ظهر شاكر العبسي مترئساً تنظيم «فتح الاسلام» وقد قدم من العراق بعد أن كان يقاتل تحت راية «أبو مصعب الزرقاوي»، الذي ذهب من الاردن مع مقاتلين اسلاميين للقتال في العراق ضد «الروافض الشيعة»، كما ورد في بيانات الزرقاوي الذي نفذ عمليات تفجير ضد مساجد للشيعة وتجمعات سكنية للشيعة، وكان العبسي من ضمن تنظيمه، حيث انشق عن حركة «فتح» المركزية، وأقنع مسؤولين في «فتح الانتفاضة» لا سيما منهم أبو خالد العملة، أنه سينتقل إلى لبنان للقتال إلى جانب المقاومة التي كانت تتصدى للعدو الاسرائيلي في حربه على لبنان صيف 2006، وقد انطلت هذه الخدعة على العملة ومسؤول «فتح الانتفاضة» في لبنان ابو فادي حماد الذي سلمه مراكز للحركة في برج البراجنة وشاتيلا ونهر البارد، في تشرين أول 2006 وكان انتقاله إلى لبنان جاء مع صدور بيان من الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، أن لبنان هو ساحة جهاد وليس ساحة نصرة، وان عناصر «القاعدة» سيحضرون إلى لبنان لمقاتلة القوات الدولية التي وصفها بالصليبية لتحمي «اسرائيل» عبر القرار 1701، وإن «حزب الله» شريك في ذلك.
وما قصده الظواهري لم يكن سوى عنوان ظاهر لهدف آخر، وهو اقامة «امارة اسلامية» في شمال لبنان متاخمة للحدون مع سوريا، ويكون لها امتداد إلى الداخل السوري عبر منطقة حمص وصولاً إلى العراق، وهو المشروع الذي فشل بعد أن ظهر العبسي في مخيم نهر البارد يدرب عناصره، وقد تمكن من السيطرة عليه بقوة السلاح ودفع الأموال وسرعة الزيجات لعناصر التنظيم من فتيات في المخيم، لضم عائلات اليه من المخيم، ولم تعد التنظيمات الفلسطينية قادرة على ردع العبسي ووقف مغامراته العسكرية، اذ بدأ يتمدد إلى مناطق الشمال عبر تيارات اسلامية متطرفة ورجال دين وأفراد، لخلق بيئة حاضنة له، وهذا ما حصل حيث استقر في شقق بطرابلس، اضافة إلى وجود مناصرين له في باب التبانة، ولجأ إلى السطو على المصارف لتمويل تنظميه وهو ما كشف حركته بعد أن تمت عملية سطو لمصرف في اميون، وقد لاحقت قوى الأمن الداخلي العناصر التي نفذت العملية وحاصرتها في شقة بطرابلس (شارع المئتين) وتبادلت معها اطلاق النار، وكان الرد من قبل العبسي بقتل 17 عسكرياً من الجيش كانوا في مركزهم قرب مخيم نهر البارد، وهو المشهد نفسه الذي حصل في عرسال مؤخراً وفي عبرا من قبل عناصر تابعة للشيخ أحمد الأسير الذي اتخذ من مصلى في بلدة عبرا شرق صيدا مقراً له حوّله إلى ثكنة عسكرية ومربع أمني.
«فمجموعة الضنية» (جماعة التكفير والهجرة) إلى «فتح الاسلام» التي خاض الجيش معارك معها في أيار 2007 وانتهت بعد ثلاثة أشهر بخسارة 170 شهيداً للجيش من ضباط ورتباء وجنود، ومئات الجرحى، ثم حوادث مع الجيش في مجدل عنجر التي كان يقوم بها أفراد ينتمون إلى منظمات تكفيرية قامت بعمليات خطف ومنها خطف «الاستونيين» السبعة الذين نقلوا إلى عرسال التي باتت مع بدء الأزمة السورية حاضنة لعناصر من «جبهة النصرة» التي قتلت عسكريين في أثناء مطاردة أحد المطلوبين خالد حميّد في عرسال وبمساعدة أشخاص من البلدة ينتمون إلى تنظيم «القاعدة» الذي كان وزير الدفاع فايز غصن حذر من وجوده في عرسال، فقامت حملة عليه ترفض ذلك ومن الذين لم يوافقوا على ما قاله غصن زميله وزير الداخلية مروان شربل الذي شكل اداؤه، في معالجة هذه القضايا نتائج سلبية على الامن ومنها قضية الشيخ أحمد الأسير الذي تم تكبير حجمه سياسياً وشعبياً وعسكرياً بسبب التراخي في الاجراءات الامنية والقانونية معه، وعدم استخدام القوة بوجهه في منعه من قطع الطرقات على المواطنين، واقامة اعتصام في صيدا عطلّ الحركة الاقتصادية فيها، واقفلها بوجه أبناء الجوار في محافظة الجنوب التي خطف الأسير عاصمتها، بغض نظر من القوى الأمنية وتساهل معه، إلى غطاء سياسي تأمن له من «تيار المستقبل» ونائبيه فؤاد السنيورة وبهية الحريري تحت عنوان أن من يواجه «حزب الله» يخدمنا، ومن الضروري أن يقام توازن عسكري معه، وبدأ الالتفاف حول الأسير الذي بدأ يشحن من يحضر خطبته يوم الجمعة في مسجده بلال بن رباح بالحقد على الشيعة، ويقول لهم هؤلاء يسبون صحابة الرسول، ويشتمون عائشة زوجة النبي محمد، واستخدم لعبة مصنوعة في الخارج، وزعم أن «حزب الله» يوزعها وفيها شتيمة ضد عائشة وتبين انها خدعة كما استغل خطبة لرئيس مجلس شورى «حزب الله» الشيخ محمد يزبك تناول فيها ام المؤمنين، وحرّض على «حزب الله»، فظهر أنه يستخدم لهدف واحد وهو الوقوف بوجه الحزب وشتمه وتحقير قيادته وأمينه العام السيد حسن نصرالله، والتطاول على الرئيس نبيه بري لاستجرار رد فعل من مناصري الحزب وحركة «أمل» عليه، وهو يقيم على بعد أمتار من حارة صيدا ذات الكثافة السكانية الشيعية، كما حاول مرات عدة قطع طريق الجنوب وترويع المارين عليه، واستفزازهم لحصول معركة مع الحزب واغراق المقاومة في فتنة (سنية، شيعية) ومحاصرتها في الجنوب، حيث مرت حوادث عدة تم تطويقها، وكان أخطرها عندما ذهب الأسير لينزع شعارات «عاشورائية» فسقط له قتيلان، بعد أن أصيب مسؤول في «حزب الله» في حارة صيدا، وقد نجح الجيش في تطويق الحادث كما استوعب الحزب ما حصل.
واستمر الأسير، وسعى إلى توسيع اشتباكه مع «حزب الله»، فاستحضر أكثر من اعتصام في وسط بيروت، وذهب إلى المناطق يحرض على المقاومة، وتذرع بوجود شقة لها قرب مقره في عبرا يسكنها مسلحون حيث تبين أنها تعود لمسؤول في الحزب يملكها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو محمد صالح وقد اغتالته اسرائيل عبر عملاء لها قرب منزله في عبرا.
وخلال العام ونصف العام حيث برزت «الحال الأسيرية» كان شيخها يفتعل الحوادث ليستقطب الاعلام الذي كان له دوراً في ابراز شخص مغمور كان يبيع الات هاتف خليوي، وله سيرة ذاتية متقلبة وكان ينتمي إلى «الجماعة الاسلامية» وانسحب منها، ليظهر كداعية اسلامي وخطيب مسجد، وله اتباع ومريدون وكل رصيده خطاب غرائزي تحريضي، ومتابعة وسائل الاعلام له، واحتضان من دول قدمت له الدعم المالي، ساعده في ذلك المطرب التائب فضل شاكر الذي ساهم بمده بالمال عبر علاقاته الخليجية كفنان، وهكذا بات الأسير موضع اهتمام سياسي واعلامي، وتحوّل إلى مركز استقطاب، وبات يهدد ويتوعد، وظهر بالسلاح أمام مسجده يعلن الحرب على «حزب الله» إلى أن ظهر قبل اسبوع من انهاء ظاهرته يقوم بمناورة عسكرية نفذها حوالي 300 عنصر في عبرا واحياء شوارع صيدا، وأعلن أن الحرب خلال أيام وربما ساعات ووضع المدينة أمام خطر انفجار، معتمداً على أن التنظيمات الاسلامية في مخيم عين الحلوة ستقف إلى جانبه في قتاله مع «حزب الله» خصوصاً وحارة صيدا الشيعية عموماً، وكاد أن ينفذ ما وعد به لولا تطويق ما جرى حيث تدخل الجيش ومنعه من تنفيذ فتنته، لكنه لم يرتدع واعتبر الجيش عائقاً أمام تنفيذ مخططه الذي طلب منه الاسراع فيه ومحاصرة «حزب الله» في قتال مذهبي بعد أن ظهرت مشاركة الحزب في معركة القصير التي ذهب إليها الأسير لمساندة مسلحيها وعاد بصور وزعها دون أن يقاتل، فقرر فتح معركة صيدا، وبدأها بمحاولة ازالة حواجز الجيش من أمامه فهاجم عناصره أحد الحواجز وقتلوا ضابطين وعدداً من العسكريين، وكان يتوقع أن لا يأتي الرد سريعاً كما حصل في عرسال ومناطق أخرى، حيث لم يرد الجيش كما أن عناصر الأسير المسلحين كانوا مروا قبل يومين أمام الجيش وآلياته دون أن يردعهم فبنى عليها حساباته فكانت خاطئة وتقديراته غير صائبة لكن رد الجيش كان سريعاً فهاجم مربعه الأمني وحاصره ونجح في السيطرة عليه بعد أقل من 24 ساعة من جريمة قتل ضابطيه وعناصره، وفر الأسير والفنان التائب شاكر إلى جهة مازالت مجهولة، وقد ترك عناصره في المعركة يقتلون أو يستسلمون حيث قتل له حوالي 70 عنصراً مع جرح أكثر من مئة واعتقال العشرات بعضهم من جنسيات غير لبنانية، ولم يسانده أحد كما وعد، فتم اجهاض تحرك منظمات اسلامية في مخيم عين الحلوة حيث فشل ابو عبد شمندور شقيق فضل شاكر ومسؤول جند الشام باشغال الجيش في معركة، و تصدت له الفصائل الفلسطنية ومنعته من اي عمل عسكري، كما لم يتمكن مؤيدوه من «هيئة علماء المسلمين» أو تيار المستقبل فتح معارك جانبية في طرابلس والطريق الجديدة وقطع طرقات في حارة الناعمة والمدينة الرياضية والبقاعين الأوسط والغربي فكان سقوطه سريعاً، والبعض يعتبره أنه خدع، والبعض رأى في أن «ظاهرة الأسير» انتهت بسرعة لأن الدور الذي كلف به، لم ينجح القيام به، وإن السؤال الذي طرح من أين أتى الأسير بالأموال لينفقها على السلاح والمسلحين.
وبعد أن انهى الجيش ظاهرة الأسير، فيكون بذلك استعاد دوره ومهامه، وثقة المواطنين به، بعد أن اهتزت ليس بسبب عدم قدرته على الحسم العسكري وفرض الأمن، بل لأن القوى السياسية كانت تعطل دوره وتعرقل مهامه وإن الجيش عندما قرر مواجهة مسلحي الأسير، لأنه لم يعد باستطاعته القبول بسقوط شهداء له، وقد كبله السياسيون كي يردع المجرمين والمخلين بالأمن إلى أن قررت قيادته الدفاع عن النفس، وهذا ما حصل، وأقفل قائد الجيش خطه الهاتفي، وانقطع عن الاتصالات هو وضباطه، ورفض الدخول بمفاوضات حول وقف اطلاق النار، ووضعه كطرف بمواجهة طرف آخر، وقد تمكن من أن ينفذ قراره وينهي الحالة الشاذة ويوقف القتلة، ومنع ما كان سيتكرر ما حصل في العام 1975، عندما تم التشكيك بالجيش واحتسابه سياسياً على طرف سياسي وطائفي للمساهمة في تفكيكه ولكن المؤسسة العسكرية أحبطت هذه المحاولة وأتبثت تماسكها ووحدتها ونجحت في رفع شعار من هو ضد الفتنة هو معها ومن هو مع الفتنة هو ضدها.
Leave a Reply