ما زالت شعوبنا العربية، والتي أرضها هي أرض الرسالات والرسل، ومهد الحضارات والعلوم، تعيش أسيرةً لمفاهيم متخلّفة ومعاكسة لجوهر ما جاء على أرضها من هدايةٍ وعلمٍ ومعرفة، وما زالت هذه الشعوب تكرّر الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها في عهودٍ سابقة تحت قياداتٍ سالفة.
ليس بربيعٍ عربيٍّ فعلاً ما تشهده المنطقة العربية منذ عامين، بل هو انتقالٌ من زمن الاستبداد والفساد إلى زمن التبعية والحروب الأهلية! كلاهما زمن انحطاطٍ وتخلّف واستنساخ لماضٍ قريبٍ وبعيد عاشته البلاد العربية منذ انتهاء حقبة “الخلفاء الراشدين”، فبعدها غاب الرشد عن الحاكم والمحكوم، إلا في فتراتٍ عابرة لم تصمد طويلاً أمام جشع جماعات الفساد في الداخل، وقوى التآمر من الخارج.
تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. فأنظمة الاستبداد والفساد مسؤولةٌ عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج الحاصلة على الأرض، حيث هيمنت إتجاهات سياسية ذات ألوان دينية فئوية مدعومة من الخارج، على الحكومات الجديدة وعلى المعارضات المسلّحة؟!
«الربيع العربي» في مطلع العام 2011 سبقه بأيام قليلة انفصال جنوب السودان (بتحريض من إسرائيل ودول غربية) وقبول دولته فوراً في الأمم المتحدة!. أكان ذلك منفصلاً أيضاً عن نتائج احتلال العراق في العام 2003 وتقسيمه عملياً؟! ألم تكن أيضاً أولى باكورات الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1978 هي إعلان «دولة جنوب لبنان الحر» بقيادة العميل الإسرائيلي سعد حداد؟! أوَليست إسرائيل حاضرةً الآن في أكثر من جبهة عربية مفتوحة على احتمالات الحروب الأهلية؟
صحيحٌ أنّه قد جرى كسر حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما يجرى أيضاً في المنطقة هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تعد تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودة في كلّ المجتمعات العربية، إن كانت منتفضةً الآن أو مستقرّةً حتّى حين.
إنَّه «زمن إسرائيلي» ينتشر فيه وباء «الإسرائيليّات» وتقلّ فيه المضادات الحيويّة الفكريّة والسياسيّة، وتنتقل فيه العدوى سريعاً، ويُصاب به «بعض الأطبّاء» أحياناً فتجتمع العلّة في الطبيب والمريض معاً!!
هذا «الوباء الإسرائيلي» لا يعرف حدوداً، كما هي دولة إسرائيل بلا حدود، وكما هم العاملون من أجلها في العالم كلّه.
المشكلة لم تكن ولن تكون في وجود «الوباء»، بل هي بانعدام الحصانة والمناعة، وفي انعدام الرّعاية الصحيّة الفكريّة والسياسية داخل الأوطان العربيّة وبلدان العالم الإسلامي، وفي الجهل المقيت بكيفيّة الوقاية والعلاج بل حتّى في رصد أعراض المرض وسهولة انتشاره!.
هناك أسئلة كثيرة تُثار الآن عن غايات وأبعاد الطروحات والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية التي تسود عدّة بلدان عربية بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث.
ويكبر حجم الأسئلة حينما نرى مثلاً هذا التركيز الإعلامي والسياسي في المنطقة، على تفسير أي حدث فيها بشكلٍ طائفي أو مذهبي ثمّ توزيع المناطق والمنظمات والحركات السياسية العربية على قوالب طائفية ومذهبية.
فالمغامرة التي يقودها البعض في عدّة بلدان عربية من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليات الإثنية إلى كياناتٍ سياسية “مستقلة” لن يكون مصيرها إلا نحر الطائفة أو المذهب أو الأقلية نفسها.
ولنترك لمخيلتنا أن ترسم لوحة المستقبل فيما لو سارت المنطقة العربية باتجاه الحروب الطائفية والمذهبية والإثنية… وكيف ستسيل أنهار من الدم، وكم سيبلغ حجم الدمار والخسائر التي ستحدث في الأرواح والممتلكات، ثمَّ الشرخ الاجتماعي الذي سينتج في محصلة كل ذلك، وكيف ستكون النتائج إذا مشينا بنظرية التداعي في الانقسام والانشطار؟! فقد يكسب آنياً بعض الأشخاص والعملاء، لكن الثمن سيكون باهظاً جداً على حساب الشعب كله والطوائف كلها والمذاهب كلها. فلا قدرة ولا إمكانية للحياة لأية دويلة ستقوم على أساس صراع طائفي أو مذهبي أو إثني. فعندما تتفجّر الحروب الأهلية، تتوقف فوراً الصراعات الاجتماعية، بحيث يتقاتل الفقراء مع بعضهم البعض على أساس انقسامهم الفئوي.. وستتوقف أيضاً المعارك التحرّرية والوطنية، لأن العدو سيكون في الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر، وسيترحّم الكثيرون على اتفاقيات “سايكس- بيكو” التي قسّمت البلاد العربية في مطلع القرن العشرين!.
فالدرس الذي تعلمه الأعداء جيداً، هو أن التقسيم الجغرافي والسياسي، قد يقيم الحواجز والحدود بين الدول بالحبر الأحمر، لكنه لا يلغي وحدة الشعوب، بينما التقسيم الديني والإثني يفكّك الناس ويجعل الحدود بينهم بنهر الدم الأحمر.
إنَّ الأوْلى عربيّاً الآن هو التحرّك الشامل لوقف الفتنة ونزيف الدم العربي بدلاً من لوم هذا الطرف أو ذاك. فالفتنة كانت مطلوبةً في البلاد العربية قبل تطوّرات الأوضاع في سوريا، والفتنة مطلوبة الآن خلالها وبعدها. الفتنة بين العرب كلّهم، بين طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم المتعددة. فتنة شبيهة بالواقع المؤلم الموجود الآن في سوريا، وكان سائداً قبلاً في لبنان والعراق، لكي يكون حالة عربية عامّة تُحطّم وحدة الكيانات والشعوب، وتنهي أيّ مقاومة لأيّ احتلال، وتجعل العدوّ هو المواطن العربي الآخر.
الأوْلى عربياً الآن هو الضغط الشعبي من أجل وقف كلّ أشكال التعامل والعلاقات مع إسرائيل ليتم الإبتعاد عن تهميش الصراع معها وإشعال الحروب الأهلية الداخلية، وقطع العلاقات بين العرب أنفسهم!.
والمسؤولية هنا تشمل العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج وفي كلّ بقعةٍ بالعالم يعيش فوق ظهرانيها أبناء البلدان العربية.
المسؤولية تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه.
وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة وأين تبدأ حدود المواطنة المشتركة، فلا نرد على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه.
والمسؤولية تشمل أيضاً الأنظمة كلّها والمنظمات العربية كلّها التي استباحت لنفسها استخدام الاختلافات الدينية أو الإثنية في صراعها مع بعضها البعض، أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة لها.
وعلى الجميع أيضاً، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدثٍ أو قضية أو صراع …
يبقى الأساس لوقف نار الفتنة هو وقف الإنصات والانصياع لدعاتها ممّن يلبسون عباءاتٍ دينية أو يكتسبون من الدعوة لها في كتاباتهم أو في تحليلاتهم المسموعة والمرئية.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
Leave a Reply