لم تعرف الطائفة السّنّية حالات من التطرّف، كما هو واقعها في هذه المرحلة، حيث تمكّن الأصوليون الإسلاميون من التوغل داخلها، وخطفها من تاريخها القومي والعربي، ومن إرثها النضالي في تحقيق الوحدة العربية، والوقوف الى جانب حركات التحرر الوطني والقومي العربي، فساندت ثورة فلسطين، وساهمت في دعم ثورة الجزائر، واحتضنت ثورة الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، وأيّدته في تأميم قناة السويس، وفي مواجهته للعدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي- الإسرائيلي على مصر.
فالسّنّة في لبنان، كانوا في طليعة الداعين والعاملين للوحدة السورية في عشرينات القرن الماضي، ووقفوا ضد مشروع تقسيم المنطقة عبر اتفاقية سايكس – بيكو، وكان الانتماء القومي عندهم يتقدّم على الولاء المذهبي والطائفي، وهو ما أبعد «أهل السّنّة والجماعة» عن اللحاق بتيارات إسلامية سواء كانت سلفية أو معتدلة، لأن الفكر القومي كان أكثر حضوراً من الفكر الإسلامي، السياسي دون أن يعني أن المسلمين السّنّة لم يكونوا متدينين، أو ملتزمين بالفروض الخمسة، بل كان انتماؤهم الى الإسلام إيمانياً وروحياً، وليس مربوطاً باستعادة «الخلافة الإسلامية» أو العمل «بسلفية جهادية» تكفيرية وعنفية، بل إن السلفيين الذين انتشروا بين السّنّة، فكانوا من أصحاب السلفية الدعوية التي تدعو للاقتداء بـ«السلف الصالح»، ونشأت الى جانب السلفية، جماعة «الإخوان المسلمين» التي استمدت فكرها ومنهجها من مؤسسها المصري حسن البنا الذي كان يدعو الى استعادة «الخلافة الإسلامية»، وكان منشأ هذه الجماعة بدعم بريطاني للوقوف بوجه المد القومي الذي كان يتقدّم في كل الدول العربية، التي كانت أنظمتها تشهد تحولات بعد نكبة فلسطين، وقيام انقلابات عسكرية حملت لواء قضية فلسطين واسترجاعها من الاحتلال الإسرائيلي، وقد وقف «الإخوان المسلمون» بوجه الرئيس عبد الناصر وخاضوا صراعاً دموياً معه، لا بل حاولوا اغتياله، وهو ما دفعه الى الزج بهم في السجن والتضييق عليهم ومنع حركتهم السياسية، لكن بعد رحيل عبد الناصر، وضعهم خلفه الرئيس أنور السادات في عهدته ومكّنهم من التغلغل في المؤسسات، إلى أن تمّ اغتياله على يدهم بعد زيارته الى الكيان الصهيوني وتوقيع اتفاقية سلام مع العدو الإسرائيلي.
في هذه الأجواء القومية، كانت الطائفة السّنّية تبتعد عن «الإسلام السياسي»، وهو ما ترك الصراع السياسي في لبنان، يقوم على مَن هو مع التوجه القومي، وبين مَن هو مع التوجه الإنعزالي، ولقد أثّر ذلك على إنتاج تسوية لبنانية بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، بأن يتخلّى المسيحيون في لبنان عن التطلع نحو الغرب واعتباره ملاذهم الحضاري وبعدهم الديني ومركز حمايتهم، وأن يتراجع المسلمون عن توجهم الوحدوي العربي، فأنتجت هذه التسوية بما عُرِف بـ«الميثاق الوطني»، وأن لا يكون لبنان لا مقراً أو ممراً للإستعمار.
وما تشهده الساحة السّنّية منذ اكثر من عقدين من بروز لتيارات إسلامية متطرفة، تعود أسبابه الى تراجع الفكر القومي ومعه الأفكار اليسارية والاشتراكية، مع انهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وقد تقدّم الإسلاميون، مع هزيمة الجيش السوفياتي في أفغانستان، وتولي حركة «الطالبان» الحكم فيها، مما أدّى الى نشوء تنظيم «القاعدة» الذي بدأ يتمدّد في الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وحظي لبنان بحضور له، وإن لم يكن كثيفاً، وقد ظهر وجوده في المخيمات الفلسطينية في أكثر من منطقة ذات كثافة سنية وخاض معارك عسكرية مع الجيش اللبناني.
في هذا الوقت كان «تيار المستقبل» يرث الساحة السّنّية بفعل غياب القوى الناصرية والقومية واليسارية التي ضعف وجودها الشعبي والسياسي والتنظيمي، كما أن ترؤس الرئيس رفيق الحريري للحكومة لمدة عقد من الزمن وأكثر، ترك أثره لجهة نمو حضوره السياسي والشعبي بين المناطق ذات الكثافة السّنّية، وهو ما مكّنه من الحصول في الانتخابات النيابية التي بدأ يخوضها منذ العام 1996، على كتلة نيابية وازنة بعد أن سيطر على مفاصل الدولة، وبات رقماً صعباً في المعادلة الداخلية، كما في علاقاته الخارجية التي ساعدته على أن يبرز كزعيم سياسي ليس على المستوى اللبناني بل على المستويين العربي والدولي، حيث حجّم وجوده في السلطة العائلات السياسية المعروفة كآل كرامي وآل سلام وآل الصلح، كما على انكفاءالتيارات اليسارية والعروبية والتقدمية، التي كان لها وجود على الساحة السّنّية، وإن كان ضئيلاً في المدن، وفاعلاً أكثر في الأرياف والأطراف البعيدة عن العاصمة.
لم يحمل الرئيس رفيق الحريري مشروعاً سياسياً، بل تقدّم كرجل أعمال ومقاول، وأن مهمته في لبنان كانت بعد اتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي، إعادة الإعمار، حيث استفاد من ذلك، ليؤسس شركة عقارية عرفت بالشركة العقارية لإعادة «بناء الوسط التجاري» المعروفة بـ «سوليدير»، وكانت أكثرية ملكية أسهمها لآل الحريري وسياسيين ورجال أعمال لبنانيين، ومساهمين عرباً، وقد استفاد الحريري من هذه الشركة ليزيد من ثروته، كما يقول عنه خصومه السياسيون، حيث كان لبنان أكبر استثمار له، وهو ربح فيه أكثر من أي بلد، وظّف أمواله فيه، فتزاوج المال والسلطة عند الحريري، وأسس لإمبراطورية سياسية، لكنها كانت من ورق، وهي قائمة على المال السياسي، إذ أن مَن انضموا الى «تيار المستقبل» هم من موظفي شركات الحريري، ومَن حصل على منحة تعليمية من مؤسساته، إضافة الى المنتفعين من وجوده في السلطة من موظفين من كل الفئات، حيث لم ينشأ هذا التيار على أرضية فكرية وعقائدية وسياسية صلبة، بل هو تجمّع لشخصيات لها تجاربها الحزبية والسياسية، إذ أن المكتب السياسي لـ «تيار المستقبل» يضم منتمين الى «منظمة العمل الشيوعي» والحزب الشيوعي وحركة «فتح» وقوى يسارية وناصرية ومستقلين، وأن جمهور هذا التيار، هو في أغلبيته من السّنّة ومَن انتمى إليه فبحكم الأمر الواقع ولعدم وجود مرجعية سياسية سنّيّة، فكان قصر قريطم هو المرجع للمسلمين السّنّة، واحتُسب الحريري الزعيم الأقوى في الطائفة السّنّية، كما الرئيس نبيه برّي في الطائفة الشيعية، والنائب وليد جنبلاط في الطائفة الدرزية.
تقدّمت «الحريرية السياسية» في الساحة السّنّية ولم تنفع محاولات إيجاد بدائل عنها، بسبب الدعم السوري لها، والذي لقيته من مسؤولين سوريين في مقدّمهم نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام والعماد حكمت الشهابي واللواء غازي كنعان، حيث نال الحريري حصة الأسد في التعيينات داخل الإدارة بكل فروعها، مما حوّله الى زعيم اول للطائفة السّنّية دون منازع، وعندما حاول المسؤولون السوريون تحجيم دوره ونفوذه، فلم يتمكنوا لأنه أصبح من الصعب شطبه من التركيبة السياسية اللبنانية، فكان يتحكّم باللعبة مع شركائه في «ترويكا» الحكم التي ظهرت في عهد الرئيس الياس الهراوي، الذي عرف الحريري في عهد الفترة الذهبية، التي تراجعت في عهد الرئيس إميل لحود الذي لم يكن على وفاق معه في أثناء توليه رئاسة الحكومة، ولم يتعاون معه في أول عهده، ولا بعد التمديد له.
ففي الوقت الذي كانت «الحريرية السياسية» ترسخ حضورها، في مرحلة التسعينات وحتى مطلع العام 2005، حيث اغتيل الحريري، استفادت القوى السلفية والإخوانية، من هذا الاغتيال ومن ارتفاع حدة الخطاب السياسي ضد النظام السوري واتهامه أنه يقف وراء الجريمة مع حلفائه في لبنان وفي مقدمهم «حزب الله» مما خلق انقساماً سياسياً اتخذ طابعاً مذهبياً، وبدأت تنتشر أخبار عن أن الشخصيات السّنّية مستهدفة بالاغتيال، كما أن الطائفة السّنّية بدأت تشكو من هيمنة «حزب الله» على القرار السياسي في لبنان، والإمساك بالسلطة فيه، مما زاد من الشرخ المذهبي، تحت عنوان أن «حزب الله» متّهم باغتيال الرئيس الحريري، وهو الذي اعتصم في ساحة رياض الصلح لإخراج الرئيس فؤاد السنيورة من السراي، كما في قيامه بعملية عسكرية وأمنية في 7 أيار في بيروت وبعض المناطق في الجبل والبقاع، برّرها «حزب الله» بأنها دفاعاً عن شبكة اتصالات المقاومة، في حين نظر إليها «تيار المستقبل» وحلفاؤه، على أنها احتلال مقنع لبيروت وإذلال أهل السّنّة بقوة السلاح الموجود، وهو ما راكم من «الغضب السّنّي» كما يؤكّد «تيار المستقبل» وأعلن أحد مسؤوليه محمد سلام أن «المارد السّنّي» سينطلق من «القمقم»، وجاء إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري من قبل «حزب الله» وحلفائه، ليرفع من حدة التوتر السّنّي – الشيعي، لجهة أن الشيعة هم مَن يسمون رئيس الحكومة في لبنان، وكل ذلك بسبب وجود السلاح معهم، وهو استخدم في الشارع منذ أحداث أيار في العام 2008، كما يقول فريق 14 آذار الذي اعتبر أن سلاح «حزب الله» هو سبب المشكلة، وأن بقاء هذا السلاح، سيدفع أهل السّنّة الى التسلّح، وهو ما فتح المناطق السّنّية لقوى التطرّف والأصولية الإسلامية، وقد زاد من وجودها اندلاع ما سمي بـ«ثورات عربية» خطفها الإسلاميون من أصحابها ذوي التيارات المدنية والقومية والليبرالية، حيث أعطى وصول «الإخوان المسلمين» بالتحالف مع «التيارات السلفية»، زخماً لقوى إسلامية في لبنان، لم تكن فاعلة، وبدأ السّنّة ينحون نحو التشدّد و«الجماعات التكفيرية»، وأدّى غياب سعد الحريري عن لبنان، بعد إخراجه من السلطة التي فعلها تحالف «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، مما زاد من منسوب الانقسام المذهبي الذي أعطى مكاناً للقوى السلفية الذين لجأوا الى التسلح والتدريب لمواجهة «حزب السلاح» و«حزب إيران»، وهو ما لقي تجاوباً من قبل أكثرية السّنّة في لبنان، وظهر الى واجهة الأحداث الشيخ أحمد الأسير المتواري عن الأنظار مع الفنان فضل شاكر منذ احداث عبرا، حيث لم يشهد لبنان، خطابا مذهبيا تحريضيا كما في هذه المرحلة التي ظهر فيها الخلاف السّنّي – الشيعي، الذي استغلته قوى التكفير والأصولية السّنّية، لتقدّم نفسها على أنها حامية للطائفة السّنّية ومدافعة عنها، وعن محاولات تهميشها في السلطة بهيمنة «حزب الله» على الحكومة، وهو ما خلق أرضية مناسبة لبروز «التيارات الإسلامية» في الساحة السّنّية، وباتت تتحكّم بقرارها، بالرغم من محاولات «تيار المستقبل» التقليل من وجودها، وأنها حالات محدودة، لكن الوقائع أثبتت أنهم ممسكون بالأرض، في طرابلس والشمال، إضافة الى بيروت وإقليم الخروب وصيدا، وهم يظهرون بالسلاح في أثناء قطع الطرقات أو المشاركة في حرب داخلية، وكل ذلك في ظل تراجع لـ «تيار المستقبل» في الساحة السّنّية، لأسباب تتعلق بوجود رئيسه سعد الحريري في الخارج منذ أكثر من سنتين، ونضوب المال، والخروج من السلطة، وهذا ما أفسح للقوى الإسلامية المتطرفة أن تملأ الفراغ الذي بدأ يعكسه أنها صاحبة قرار سنّيّ، ولم تعد على هامش الأحداث، لا بل في صميمها ومن صنعها، مما يؤكّد أن «التيار السّنّي المعتدل» ينكفئ كما قال النائب وليد جنبلاط، الذي بدأ يتخوّف من ظاهرة التطرّف السّنّي، الذي وقف الى جانب الشيخ أحمد الأسير، الذي تحوّل الى رمز، فأنزلت صور سعد الحريري في بعض المناطق لترتفع مكانها صور الأسير الذي شكّل نموذجاً «للسّنّة الجدد» في لبنان، وهم ليسوا عروبيين ولا تقدميين أو قوميين ويساريين، بل تكفيريين، وقد ساهم «تيار المستقبل» في خلق هذه الظواهر عندما غضّ الطرف عن صعود «الإسلام التكفيري» في ساحته، والترخيص الذي أعطاه أحمد فتفت عندما كان وزيراً للداخلية لـ«حزب التحرير» المحظور في العالم، وهو يرفع شعارات لا تتطابق مع الدستور اللبناني، ولا يعترف بوجود دولة لبنانية ودستور، بل هو يعمل لإقامة «الخلافة الإسلامية» بشتى الطرق والأساليب والوسائل، وأن الجيش اللبناني هو العقبة أمام تحقيق حلم إمساك القوى الإسلامية بالسلطة في لبنان ودول غربية أخرى، لذلك كان التركيز عليه لشلّ دوره في الحفاظ على وحدة لبنان وسلمه الأهلي، فكانت الإشكالات الأمنية معه من عرسال الى عكار وطرابلس وصيدا وبيروت، من ضمن خطة ضرب المؤسسة العسكرية وشلّها، ليتمكّن «الإسلاميون» من إقامة سلطتهم وإمارتهم الإسلامية في لبنان.
Leave a Reply